ضوابط التكفير
هناك شروط ثلاثة
لابد من اجتماعها فيمن عمل عملاً يستحق عليه الوعيد كاللعن والكفر، وإذا سقط شرط
منها فيمتنع لعن الشخص وتكفيره، وهذه الشروط هي:
أولاً:العلم
لكي يحكم علي شخص
بالكُفر لأنه عمل عملاً، أو قال قولاً، أو اعتقد اعتقاداً هو كُفر لابد قبل الحكم
من التأكد من مع معرفة بأن ما يفعله كفر، وأنه مخالف لما يجب فعله من الحق
والصواب، فإذا كان جاهلاً بالحق و الصواب فلا تشرع عقوبته قبل بيان الحق والصواب
بياناً شافياً، فالله سبحانه وتعالي لم يشرع العقوبة قبل إقامة الحجة، قال عز وجل:
{ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ
فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء : 15]،
وقال تعالي: { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ
عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء : 165]، وقال تعالي: { وَمَا كَانَ
رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا
ظَالِمُونَ } [القصص : 59]، وقال تعالي: { تَكَادُ
تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ
فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي
ضَلالٍ كَبِيرٍ } [الملك : 8،9]، وقال تعالي: { وَلَوْ
أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ
وَنَخْزَى } [طه : 134].
فهذه النصوص
القرآنية تفيد أن الله تعالي لا يؤاخذ عباده إلا بعد قيام الحجة عليهم، وعلمهم
بالحق والصواب، وقد ثبت في نصوص أخري أن الله لا يؤاخذ الجاهل، ولو كان جهله
بمسائل في العقيدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول (ص) قال: (( كان رجل
يسرف علي نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقونى، ثم اطحنونى، ثم
ذروني في الريح فو الله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداًُ، فلما
مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي مافيكِ منه، فإذا هو قائم، فقال ماحملك
علي ما صنعت؟ قال: يارب خشيتك، فغفرله )) صحيح البخاري.
فهذا الرجل قد وقع
له الشك والجهل في قدرة الله تعالي علي إعادة ابن آدم، بعدما أحرق وذري، وعلي أنه
يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك، وهذان أصلان عظيمان:
الأول: متعلق
بالله تعالي، وهو الإيمان بأن الله علي كل شئ قدير.
والثاني: متعلق
باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه علي أعماله.
ومع هذا فلما كان
مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح، والأدلة من
السُّنَّة كثيرة.
ثانياً: العمد
بعد استيفاء شرط
العلم، وبيان دليل الحق والصواب للمخالف، والتأكد من وصوله إليه، إن ظل علي فعله
أو قوله أو اعتقاده الذي يجلب له الكفر أو اللعن، لا يجوز الحكم عليه بالكفر إلا
بعد استيفاء شرط آخر، وهو العمد، فنري هل تعمد نصرة القول الباطل، ومخالفة الحق
بعد وصوله إليه ووضوحه، أو هو مخطئ متأول قد عرضت له بعض الشبه؟ ، لابد من توافر
شرط العمد، لأن الله تعالي قد رفع الإثم والمؤاخذة عن المخطئ والمتأول، قال تعالي:
{ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن
لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [الأحزاب : 5]،
وقال تعالي: { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن
نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ
طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا
فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة :
286]، وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص): أن الله تعالي قال: قد
فعلت، لما دعا النبي (ص) والمؤمنون بهذا الدعاء ، وقد قال (ص): (( أعطيت فاتحة
الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، وأنه لم يقرأ بحرف منها إلا أعطيتها
))، وقال (ص): (( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان )) صحيح مسلم.
ثالثاً: الأختيار
والقدرة
إذا علم المرء
الحق وقال بخلافه لم يكن متأولاً هل يكفي ذلك للحكم عليه؟، هنا ننتقل إلي الشرط
الثالث، فننظر في حال هذا الشخص، وهل قال هذا القول الباطل وهو مختار قادر أم لا؟ وهذا
شرط لابد من توافره؛ لأن النصوص والوقائع بينت أن الله تعالي لا يؤاخذ المكره
والعاجز عن الإختيار، قال تعالي: { مَن كَفَرَ
بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ
اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل : 106].
-
موانع تكفير
المعين: الخطأ والجهل والعجز والإكراه.
وأخيراً: ما معني
من لم يُكفر الكافر فهو كافر؟
من العبارات التى
اشتهرت علي ألسنة من يلهبون الناس بسياط التكفير قولهم: من لم يُكفر الكافر فهو
كافر، وجعلوا هذه القاعدة مسوغاً لتكفير من يخالفهم في رأيهم، وحقيقة أن هؤلاء
الدعاة لم يحسنوا إنزال هذا القول منزل، فلم يجيدوا فهمه، فالمراد بالكافر الذي من
لا يكفره يكون مثله، هو الشخص المقطوع بكفره الذي توافرت فيه جميع الشروط وانتفت
عنه جميع الموانع، ومن كان كافراً ومات علي الكفر مثل فرعون، وهامان، ولقمان، وأبي
لهب وزوجته، وآذار (والد نبي الله إبراهيم)، وزوجة نبي الله لوط، وابن نبي الله
نوح .. إلخ ؛ فمن لم يكفر هؤلاء فهو مثلهم، أما من يُكفرون علي آرائهم أو مواقفهم
التى تعارض فكر هؤلاء الدعاه فيحكمون عليه بالكفر وكرهه للإسلام وحتى وإن كانت هذه
الآراء تبدو عليها كذلك إلا أنها لا تتوافر فيها الشروط السالف ذكرها، والله أعلم
بالسرائر وليس لدينا إلا الظاهر، وقد دلت أعمال أئمة السلف أن المراد بالكافر هو
المقطوع بكفره لا المختلف فيه، ودليل ذلك: أن الإمام أحمد كان يري كُفر تارك
الصلاة، وكان الأئمة الثلاثة لا يرون كفره، وقد دارت مناقشة بين الإمام الشافعي
والإمام أحمد حول هذه المسألة فهل حكم الإمام أحمد علي الإمام الشافعي بالكفر لعدم
تكفيره لتارك الصلاة؟ بالقطع لا.