صلاح الدين الايوبي
الحرب والهدنة مع بلدوين الرابع
تحرّك ملك بيت المقدس الشاب بلدوين الرابع بن عموري "الأبرص"، أثناء وجود صلاح الدين على مشارف القدس، وسار بجمع من فرسان الهيكل من مدينة غزة ودخل عسقلان. ووصلت هذه الأنباء إلى صلاح الدين فعاد بقسم من جيشه إلى ضواحي المدينة، لكنه تردد في مهاجمة الصليبيين على الرغم من التفوق العددي للأيوبيين، وذلك لوجود عدد من القادة المهرة المخضرمين في صفوفهم، وكان لهذا التردد في الهجوم أثره الكبير، إذ قام الصليبيون تحت قيادة الملك بلدوين وأرناط آل شاتيون صاحب الكرك بهجوم مفاجئ بتاريخ 25 نوفمبر من سنة 1177م، وأخذوا الأيوبيين على حين غرّة وهزموهم في تل الجزر بالقرب من الرملة، وقد حاول صلاح الدين تنظيم صفوف الجيش وحشد الجنود مجددًا، لكنهم تشتتوا، وصُرع في المعركة جميع حرّاسه، فرأى الانسحاب إلى مصر وإنقاذ ما تبقى من العساكر
إستعد صلاح الدين لمنازلة الصليبيين مجددًا بعد عودته إلى مصر، فجمع الجنود والعتاد اللازم، ولم تثبط عزيمته رغم الهزيمة التي لحقت به في فلسطين، بل زادته إصرارًا على القتال. وفي ربيع سنة 1178م، نزل الجيش الأيوبي بقرب حمص، وحصلت بضعة مناوشات بينه وبين الجيش الصليبي، وفي شهر ربيع الأول سنة 574هـ، الموافق فيه شهر أغسطس سنة 1178م، هاجمت فرق صليبية أخرى مدينة حماة والقرى المجاورة وقتلت بعض السكان، لكنها هُزمت على يد حامية المدينة وأُسر كثير من أفرادها، واقتيدوا إلى صلاح الدين الذي أمر بإعدامهم كونهم "عاثوا فسادًا في أرض المؤمنين". أمضى صلاح الدين بقية العام في الشام دون أي يخوض معارك أخرى، لكن الحال لم يدم طويلاً على هذا النحو، فقد وصلت صلاح الدين أنباء مقلقة من جواسيسه تقول بأن الصليبيين يخططون لشن حملة عسكرية على سوريا الوسطى، فأمر ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب، بأن يقف على الجبهة الدمشقية ومعه ألف من الجنود استعدادًا لضبط أي هجوم، وألا يلتحم مع الصليبيين في قتال، وإن حصل وتقدموا إلى المدينة، فعليه الانسحاب وإضاءة المنارات المنصوبة على التلال المحيطة حتى يعلم صلاح الدين بمجيئهم فيُلاقيهم بنفسه. وفي شهر ذي القعدة سنة 574هـ، الموافق فيه شهر أبريل من عام 1179م، تقدم الصليبيون بقيادة الملك بلدوين نحو دمشق متوقعين مقاومة ضعيفة، وشرعوا في مهاجمة القرى والرعاة في مرتفعات الجولان، فتصدت لهم فرقة عسكرية أيوبية بقيادة فروخ شاه، ثم انسحبت من أمامهم، فتعقبوها حتى جنوب شرق القنيطرة حيث كان الجيش الأيوبي منتظرًا، فوقعت معركة كان النصر فيها لصالح الأيوبيين. قام صلاح الدين بتعزيز قواته بعد هذا النصر، فطلب من أخاه الأصغر الملك العادل سيف الدين أبو بكر، أن يُرسل إليه 1,500 فارس من مصر لينضموا إلى الجيش في الشام.
بحلول صيف عام 1179م، كان بلدوين الرابع قد أقام حصنًا حدوديًا سماه المؤرخون المسلمون "حصن مخاضة الأحزان" على الطريق المؤدية إلى دمشق ليؤمنها، وعزم على بناء جسر فوق نهر الأردن هو "معبر يعقوب" (يُعرف اليوم باسم جسر بنات يعقوب) ليصل الأراضي الصليبية بسهل بانياس الذي يفصل بين الإمارات الصليبية والأراضي الإسلامية. اعترض صلاح الدين على هذا المشروع واعتبره عملاً عدوانيًا تجاه المسلمين، وعرض على بلدوين 100,000 قطعة ذهبية مقابل تخليه عن هذا المشروع، لكن الأخير رفض التسوية، فعزم صلاح الدين على مهاجمة الحصن الحدودي وتدميره، ثم سار بجيشه وجعل مركزه بانياس. هرع الصليبيون للقاء المسلمين بعد تلك الخطوة، لكن جيشهم تشتت، حيث تلكأ المشاة في الخلف، واستمر صلاح الدين يستدرجهم بعيدًا حتى ما إن تبين له أن الفرصة سانحة وإن الجيش الصليبي منهك، انقض عليهم واشتبك الجيشان في معركة طاحنة انتصر فيها المسلمون، وأُسر كثير من كبار الفرسان الصليبيين، ثم تحرّك صلاح الدين صوب الحصن وضرب الحصار عليه، ثم دخله فاتحًا في 26 ربيع الأول سنة 575هـ، الموافق فيه 30 أغسطس من سنة 1179م.
وفي ربيع سنة 1180م، وبينما كان صلاح الدين في صفد يُحضّر لغزو بيت المقدس، راسله الملك بلدوين يعرض فوافق، والواقع أن القحط في ذلك العام كان دافعًا أساسيًا لكلا الرجلين ليتوقفا عن القتال، حيث ذبلت المحاصيل ولم ينضج منها إلا القليل، فقلّت مؤن الجيشين الصليبي والأيوبي، وأصبح يتعذر على أي منهما ضرب حصار على قلعة أو مدينة تابعة للآخر، دون المجازفة بحدوث مجاعة في صفوف الجند. رفض ريموند الثالث صاحب طرابلس الالتزام بالهدنة في بادئ الأمر وأصرّ على القتال، لكنه سرعان ما رضخ للمعاهدة بعد أن أغار الجيش الأيوبي على إمارته في شهر مايو، وظهر الأسطول الإسلامي بالقرب من مرفأ طرطوس مهددًا بالهجوم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق