صلاح الدين الأيوبي
الحملة الصليبية الثالثة
كانت معركة حطين وفتح القدس سببين رئيسيين لخروج الحملة الصليبية الثالثة، حيث حثّ البابا غريغوري الثامن ملوك أوروبا على شن حملة صليبية جديدة لاستعادة بيت المقدس، فكان أول من لبى النداء الإمبراطور الألماني فريدريش بربروسا الإمبراطور الروماني المقدس الذي سار بجيشه برًا عبر المجر ورومانيا حتى بلغ القسطنطينية، والتي كان إمبراطورها إسحق الثاني قد تحالف سرًا مع صلاح الدين، ألاّ يسمح أحدهما لأي قوّات بتهديد أراضي الآخر، إلا أنه لم يقوى على منع قوات فريدريش لكثرة عددهم، لكنه لم يسمح بتزويدهم بالمؤن. راسل فريدريش أبناء سلطان سلاجقة الروم قلج أرسلان الثاني وقد كانوا قد حجروا على أبيهم، للمرور من خلال أراضيهم، فسمحوا له، وأرسل قلج أرسلان الثاني يعتذر لصلاح الدين على عدم قدرته على منع الألمان من المرور من أراضيه، فبلغت الرسل صلاح الدين وهو يحاصر عكا.
رغم ذلك، فقد فشلت حملة فريدريش في الوصول إلى الشرق، لطول المسافة وحلول الشتاء على الجيش المرتحل ومقاومة بعض أمراء المناطق التي مرت بها الحملة للجيش الغازي وقلة المؤن، خاصة بعد امتناع إسحق الثاني إمبراطور الروم عن إمدادهم بالمؤن، إضافة إلى غرق فريدريش بربروسا نفسه في أحد الأنهار بالقرب من أنطاكية، والخلافات التي تبعت وفاته على من يخلفه، وقد أثارت أنباء فشل حملة بربروسا الغبطة في المعسكر المسلم المدافع عن عكا.
لم تتوقف الحملة عند ذلك، بل تصدى لتلك الحملة أيضًا ملكان من أكبر ملوك أوروبا في ذلك الوقت هما ريِتشارد الأول "قلب الأسد" ملك إنگلترا وفيليپ أغسطس ملك فرنسا، اللذان مُوِّلاها بفرض ضريبة خاصة عُرفت بعشور صلاح الدين في إنگلترا وأجزاء من فرنسا، وانضما إلى حصار عكا، التي سقطت في عام 587هـ، الموافق لعام 1191م، أمام القوات التي يقودها ريتشارد، وأُعدم فيها ثلاثة آلاف سجين مسلم منهم نساء وأطفال.
ردّ صلاح الدين بقتل كل الفرنجة الذين أسرهم بين 28 أغسطس و 10 سبتمبر، وقد كتب بهاء الدين بن شداد "وبينما كنا هناك أحضروا اثنين من الفرنجة الذين تم أسرهم إلى السلطان صلاح الدين، وعلى الفور أمر بقطع رؤوسهم." وفي 15 شعبان سنة 587هـ، الموافق فيه 7 سبتمبر سنة 1191م، اشتبكت جيوش صلاح الدين مع جيوش الصليبيين بقيادة ريتشارد قلب الأسد في معركة أرسوف التي انهزم فيها صلاح الدين، إلا أن الصليبيين لم يتمكنوا من التوغل في الداخل وبقوا على الساحل، وبقيت الحرب سجال بين الفريقين، وفشلت كل محاولات الفرنجة لغزو القدس.
لجأ الفريقان بعد ذلك إلى الصلح، وعقدت هدنة في 20 شعبان سنة 588هـ، الموافق فيه 1 سبتمبر سنة 1192م، لمدة ثلاث سنوات وثمانية أشهر تبدأ من ذاك التاريخ، بعد أن أجهدت الحرب الفريقين، التي بموجبها تنحصر مملكة بيت المقدس الصليبية في شريط ساحلي ما بين يافا وصور، وتظل القدس في أيدي المسلمين مع السماح للمسيحيين بالحج إليها. ومع ذلك، كانت علاقة صلاح الدين مع ريتشارد يسودها الاحترام المتبادل والشهامة بعيدًا عن التنافس العسكري، فعندما أصيب ريتشارد بالحمى، عرض صلاح الدين الأيوبي عليه خدمات طبيبه الشخصي، وأرسل إليه فاكهة مثلجة. وفي أرسوف، عندما فقد ريتشارد جواده، أرسل إليه صلاح الدين الأيوبي اثنين محله. كما عرض ريتشارد على صلاح الدين فلسطين موحدة للمسيحيين الأوروبيون والمسلمين عن طريق تزويج أخت ريتشارد الأول بأخو صلاح الدين وأن تكون القدس هدية زفافهما، على أن يكون ما فتحه المسلمون تحت حكم العادل وما بيد الفرنجة تحت حكم أخت ريتشارد، إلا أن الأمر لم يتم. إلا أن الرجلين لم يلتقيا أبدًا وجهًا لوجه وكان التواصل بينهما بالكتابة أو بالرسل.
ولما تم الصلح سار صلاح الدين إلى بيت المقدس وحصّن أسوارها، وأدخل كنيسة صهيون داخل أسوارها، وبنى فيها مدرسة ورباطًا للخيل وبيمارستان، وغير ذلك من المصالح، وقضى بالمدينة شهر رمضان من سنة 588هـ، ثم تركها في 5 شوال متوجهًا إلى دمشق حيث قضى آخر أيامه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق