أولا : السلفية التقليدية
السلفية التقليدية تيار قديم جدا في مصر منذ العصور الوسطى الإسلامية و قد مثله العديد من الجمعيات و المجموعات منذ بدايات القرن العشرين الميلادي مثل جمعية "الهداية" التي قادها الشيخ محمد الخضر حسين لكن هذه الجمعيات كانت تنشأ ثم تنحل مع مرور الوقت.
و كانت هذه الجمعيات تهتم بالشعائر الاسلامية التعبدية المختلفة و تجريدها من البدع, و السعي لتنفيذها على النحو التي كانت عليه في العصور الاسلامية الأولى في عصر النبي محمد صلى الله عليه و سلم و عهد صحابته لاسيما الخلفاء الراشدين بشكل خاص, كما اهتم هذا التيار دائما بما تسميه الجماعات الاسلامية بالهدي الظاهر و يقصد به إتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم في الأمور المتعلقة بشكل الملابس و شعر الرأس و اللحية بالنسبة للرجال و الحجاب و عدم إظهار التزين بالنسبة للنساء.
و كانت هذه الجمعيات تهتم بالشعائر الاسلامية التعبدية المختلفة و تجريدها من البدع, و السعي لتنفيذها على النحو التي كانت عليه في العصور الاسلامية الأولى في عصر النبي محمد صلى الله عليه و سلم و عهد صحابته لاسيما الخلفاء الراشدين بشكل خاص, كما اهتم هذا التيار دائما بما تسميه الجماعات الاسلامية بالهدي الظاهر و يقصد به إتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم في الأمور المتعلقة بشكل الملابس و شعر الرأس و اللحية بالنسبة للرجال و الحجاب و عدم إظهار التزين بالنسبة للنساء.
أوجه التشابه بين السلفية التقليدية والسلفية الجهادية:
من بين أوجه التشابه الكثيرة بين السلفية التقليدية والسلفية الجهادية السمات التالية:
1ـ الاعتناء بمسألة التوحيد:
إن التيمة الأساسية في إيديولوجيا الحركات السلفية سواء كانت تقليدية أو جهادية هي التوحيد, ويعني إفراد الله بالعبادة دون سواه, فالمجتمع انعكاس, أو ينبغي أن يكون انعكاسا لهذا التوحيد الإلهي, فإذا كان التوحيد صفة أساسية للذات الإلهية, فإنه في المجتمع تحتاج إلي تحقق وبناء, وترجمة التوحيد علي مستوي المجتمع لا يتم إلا عن طريق تحقيق مجموعة من مشاريع الوحدة: منها وحدة العقيدة, ووحدة الشعائر...
أن الحقل الدلالي الذي يفتح عليه مفهوم التوحيد لا يقف عند هذا الموقف الأصولي في الاعتقاد والذي مضمونه:' الاعتقاد بالله كما وصف به نفسه من غير تعطيل أو تـأويل', وإنما يمتد ليشمل ضوابط للممارسة الدينية, فإذا كان الإسلام يقيم العقيدة علي مقولة التوحيد, فإن السلوك والممارسة ينضبطان بهذا المبدأ انضباطا مطلقا لا مجال فيه لإشراك غير الله في العبادة بأي طريقة سواء كانت صلاة أو تقربا أو دعاء.
إن انتقال الكلام عن التوحيد من مجال المعتقدات إلي مجال الممارسة, جعلت السلفيين ليسوا فقط أصحاب رؤية عقدية بالمعني الحصري للكلمة, وإنما أصحاب مواقف وردود علي واقع الممارسة التعبدية في المجتمع, وهذا ما يجعل من السلفية نوعا من البروتستانتية الإسلامية بتأكيدها علي انه لا حكم لغير الله, ورفض لكل تهاون في مسألة الوحدانية وما يرتبط بها من أخلاقيات.
و من خلال مفهوم التوحيد يصبح الإيمان عند السلفية وحدة كمية قابلة للقياس,بحيث يمكن في كل وقت وحين اختبار سلوكيات المؤمن وممارساته التعبدية والنظر فيما إذا كانت موافقة ومجسدة لمبدأ التوحيد,وفي ذلك مسافة كبيرة من المفهوم الصوفي للإيمان الذي يفسر بمنطق عاطفي روحاني وليس باعتباره مكونا فيزيائيا يعتمد علي المعطيات الحسية.
2ـ تصلب الخطاب:
هناك مبدءان يشكلان منبع هذا التصلب: الأول, رفض الشرك والإصرار علي التوحيد الذي يجب أن يخضع له كل سلوك بشري, بحيث يشكل مبدأ التوحيد الخلفية التي تقاس عليها شرعية كل التصرفات والمواقف والأفعال والمقولات حتي ولو لم تكن بالضرورة دينية. فأي نوع من التفكير والفعل لا ينطلق من التوحيد هو نوع من عبادة الذات. وبذلك تضع السلفية المسلم أمام طريقين لا ثالث لهما فإما أن يكون سلفيا أو لا يكون مسلما بإطلاق. والثاني ؤية الصارمة جدا والملتزمة بحرفية القرآن وفق التقليد الحنبلي, والذي يجعل كل شيء يعود إلي منطوق القرآن والسنة.
وبهذا تكون السلفية محاولة نشطة لتكوين أورثوذوكسية واحدة لكافة السكان, نوع من الإصرار علي تأسيس مذهب فقهي متجانس مع العقيدة, وثورة علي التقاليد الدينية الكلاسيكية واعتماد الإسلام النصوصي الذي يحيل علي القران والسنة كمناط كل تفكير وسلوك.
يؤدي الانطلاق من هذين المبدأين إلي اتصاف السلفية بطابع عام, يجعلها نمطا فكريا أحادي الطبيعة, مجموعة من المقولات القاطعة والحاسمة المكتفية بذاتها التي لا حاجة لها إلي منبه خارجي يوقظ وعي الذات السلفية, بل بمجرد الارتداد إلي تعاليم السلف.
ولهذا التصلب انعكاسات هامة, إذ أنه سمة تستغرق مختلف الأنشطة السلفية بشكل مباشر أو غير مباشر, ومن مظاهر ذلك أن معظم دروس الطائفة موجه نحو التحذير من البدع والطوائف المتبنية لها بشكل ينتج عنه هجوم شرس علي مجموعة من صيغ الإسلام:
- الإسلام الشعبي متمثلا في ما ترسب في المجتمع المغربي من عادات دينية, مثل الاحتفال بعيد المولد النبوي وزيارة المقابر ومظاهر الاحتفال الصوفية وتقديس الأولياء, وغيرها من المظاهر التي ينافي إسلام السلف حسب المذهب السلفي.
- الإسلام الحركي متمثلا في الحركات الإسلامية, لما قامت علية من' انحرافات عقدية ومخالفات لمنهج الدعوة القائم علي أولوية مهمة الإصلاح العقائدي والتربوي وهامشية الإصلاح السياسي مقارنة مع هذه المهمة العبادية'.
-الإسلام العالم' الذي يسلك منهج التوفيق في كل الأمور الدينية بما فيها العقائدية والعبادية بشكل أضاع معه رسالة الدعوة'.
- الإسلام الرسمي لتعصبه لمذهبية واحدة دون سائر المذاهب.
3ـ الآباء المؤسسون:
يشترك السلفيون أيضا في القول بضرورة الأخذ عن السلف الصالح المشهود له بالخيرية, و ذلك باستعمال ما كان من كلامهم الذي هو الفهم الصحيح للكتاب والسنة, وهكذا فالطريق إلي الوصول علي المعني الصحيح هو الرجوع إلي ما كان عليه الأولون والأخذ بفهومهم للنص الديني.
ويتنج عن المكانة التي يحتلها السلف الصالح عند السلفيين الإصرار علي واجب التعامل معهم كناقلين لمعرفة مقدسة, وفي نفس الوقت فإن السلف هي الجماعة المنتجة للآليات التي يجب التعامل بها مع تلك المعرفة, فلا وجود لآية من كتاب الله أو حديث نبوي فاتت الصحابة والتابعين أو تركوها بدون تفسير واضح.
فبإحالتها علي السلف, لا تقصد الإيديولوجيا السلفية مجرد الارتداد علي أسماء يحتفظ لها التاريخ بمكانة اعتبارية, بل تريد السلفية تأكيد تساميها وتفوقها علي ما يخالفها من أفكار عبر التاريخ الإسلامي.
كما يطعن السلفيون في ما يشكل سلفا بالنسبة لاتجاهات الفكر الديني الأخري ومن أبرزها ما ينعتونه' بالمدرسة العقلية' التي تمثل لديهم خطا فكريا متواصلا امتد من الغزالي وتجسد عند الأفغاني ومحمد عبده, ووجد ترجمته في خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة, واصفين سلف وخلف هذه المدرسة بالحمق والطيش لما نشأت عليه من عقائد فاسدة, وما مارسته من توفيقية فكرية كان هدفها التصالح مع الغرب.
وتتجسد المكانة التي يتبوؤها السلف في المساحة التي تحتلها مقولاتهم في المتن السلفي بحيث تستغرق هذه الأخيرة مقولات هؤلاء معظم مساحات الكتب الحديثة الصادرة عن السلفيين قدمائهم ومعاصريهم, فما أن يقدم المؤلف لموضوعه حتي يبدأ في استعراض أقوال السلف ممن أفاضوا في المسألة محل البحث, فيكون المؤلف عبارة عن تجميع مقولات كثيرة يراد لها أن تقوم مقام الحجة بالنسبة للمؤلف, بحيث لا يظهر دور هذا الأخير إلا بعد صفحات متعددة من الإحالات ليسجل فضل هؤلاء وعبقريتهم التي لم تترك له مجالا للإضافة أو التحسين, وإنما مجرد المحاججة بأقوالهم علي ما يخالفها من تفسيرات.
4 ـ النصوصية:
تشترك السلفيات علي اختلاف أنواعها باتسام خطابها بالنصوصية: يكمن اعتبار السلفية نمطا من الفكر يقتصر علي استخدام المصطلح الإسلامي الأصلي, ويتخذ من قيم الإسلام ومبادئه المعيار الوحيد في النظر والحكم, ومن النص النقلي مرجعه النهائي في التدليل والإثبات, دون ان يستوحي عناصر فكرية مستقلة من خارج الأصولية الإسلامية للاستعانة في تبريره الفكري ودفاعه العقدي.
يضخم السلفيون من دور النص, ويتجاهلون دور العامل الإنساني الذي يقوم بتفسير النص, ويرون أن النص ينظم معظم جوانب الحياة, ومن يحدد معناه هو قراءة من الصحابة, أما الآخرون, فتنحصر وظيفتهم في تلقي النص وتطبيقه. ففي النموذج السلفي, لا علاقة لذاتيات الطرف المفسر غير الصحابي بفهم الأحكام الإلهية أو تنفيذها, فهذه الأحكام موجودة بالكامل وبوضوح في حرفية فهم السلف للنص, وبالتالي لا دور للتأملات الأخلاقية والجمالية الخاصة بالطرف المفسر ولا دور لتجاربه, بل لا حاجة إليها أصلا.
إن تركيز السلفية علي النصوص يجعل منها إسلاما أورثوذوكسيا مستغرقا في دقائق الشريعة وإذعان لسلطان مستمد من الشريعة وحدها. والنتيجة, عدم قدرة الخطاب السلفي علي تطوير خطاب منظر للعقيدة حيث يخلو من مفاهيم ونظريات المقعدة هذا المبحث, لصالح مجموع مواقف عقائدية متصلبة لا تبني ذاتها و لا تبرر وجودها إلا من خلال احتكار الفهم الصحيح للنصوص, و التميز بذلك عن الاتجاهات العقائدية الأخري.
ونظرا لهذه النصوصية, يرفض الخطاب السلفي استخدام السببية الاجتماعية كعنصر في التحليل, بحيث ينظر إلي المجتمع علي أنه ككيان توحده العقيدة وليس كجسم تربطه مصالح اجتماعية وعلاقات إنسانية, وإذا صادف أن أشير إلي بعض مظاهر الحركية المجتمعية في سياق الحديث, فإنها تفعل ذلك في معرض التبرير أو التنديد بدون أدني تحليل للأسباب و الدوافع.
5 ـ الشكلانية:
تظهر شكلانية الخطاب علي مستوي السلوكيات التعبيرية للخطاب السلفي وهو ما يتبين من خلال طرق السلفيين إدارة الدروس اليومية في أسلوبهم في الحوار والمجادلة والحجاج.
ففي الدروس اليومية تعضد الشكلانية بواسطة التكرار الطقوسي للمواضيع وشرحها شروحات مستفيضة, فهناك كلمات محورية يدور حولها جميع الدروس, كما أن نفس المواضيع تكون حاضرة باستمرار داخل كل الدروس الملقاة, ويهدف هذا التكرار إلي توحيد الدلالة عند المستمعين, أي انها مواضيع منغلقة سيميائيا علي نفسها بشكل يجعل النمطية تتسرب إلي الدروس, بحيث لا تقدم للمتلقي المستقل الحافز لمعاودة الحضور إليها.
وإذا كانت الخصائص السابقة هي سمة لكل الخطابات الأيديولوجية, فإنها تبلغ أقصي درجاتها عند السلفيين, بحيث يؤدي السرد المتكرر والمتواصل للوثوقيات والبديهيات الدينية إلي إبعاد المتلقي عن كل محاولة للنقد أو إصدار أحكام خارج محددات الإيديولوجيا
يختلف أسلوب الحجاج الذي يستخدمه السلفيون في مواجهة المتناظرين معهم, وذلك حسب مستوي المعارف العقائدية المتوفرة لدي هؤلاء, هكذا تتراوح الإستراتيجية الحجاجية السلفية بين نوعين, النقد الشديد في حالة التمكن العقائدي, أو المشاركة النقاشية في حال الإيمان العقائدي المتردد أو غير الواعي. ففي الحالة الأولي, توصي منهجية الدعوة بالتوقف عند مرحلة عرض الأدلة المضادة وغيرها من المضادات الدفاعية, دون الدخول في جدل قد يؤثر في الداعية السلفي نفسه في حالة التمكن العقائدي للمتجادل معه. أما في الحالة الثانية, فيكون المجهود الدعوي أكثر انبناء لأنه لا يتوقف عند مستوي هدم المرتكزات العقائدية السابقة, بل يروم إلي إعادة بناء مذهبية جديدة. فعلي الداعية السلفي أن لا يترك المتلقي إلا وقد تمت أعلن هدايته, أو عندما يضمن انخراطه اللغوي علي الأقل.
6- الموقف من الطقوس العبادية:
هنا يستعمل السلفيون مفهوم البدعة لتعني المحدثات التي لا أصل لها في القرآن وسلوك الصحابة.
يوظف السلفيون مفهوم البدعة كثيرا عند حديثهم عن وسائل الدعوة, وخصوصا عندما يريدون تمييز منهجيتهم الدعوية عن تلك السائدة لدي الحركات الإسلامية, فإذا كان الكثير من الفاعلين في هذه الحركات يرون أن هذه الوسائل اجتهادية, بما يعني حرية الداعي في اختيار ما يراه مناسبا من الوسائل التي تحقق الصلاح و الهداية للمدعوين, يقول السلفيون أن وسائل الدعوة مبنية كلها علي التوقيف, ذلك أن حال الأمة الإسلامية لا يصلح عندهم إلا بما صلح بها الأولون وأصلحوا, فالطريق إلي إصلاح الناس هو السبيل الذي درج عليه النبي ودرج عليه صحابته. وهذه السبل هي علي سبيل التحديد: الخطب المشروعة كخطبة الجمعة والعيدين, والحلقات العلمية, والإفتاء, والجهاد في سبيل الله, والنصيحة لائمة المسلمين وعامتهم. أما غيرها من الوسائل التي تستعملها الحركات الدعوية الأخري فهي بدعية, كالسماع المجرد, وتلحين القصائد, والتغني بها, والتمثيل والمسرحيات, وغيرها مما اعتاد عليه الإسلاميون عند إقامتهم أنشطتهم الدعوية. والخلاصة أنه لا يجوز بحال اتخاذ وسائل دعوية غير شرعية لا دليل عليها في السنة ولا سوابق لها عند الصحابة.
7- طرق التلقين:
من خلال تتبع نشاط الحركات السلفية باختلاف أنواعها, يتبين اعتمادها علي ميكانيزم التلقين كوسيلة للانتشار والتعبئة, لكن المعطيات توضح بجلاء اختلافا في مستويات الانفتاح والانغلاق الذي يواكب هذه العملية, فداخل جمعية محددة ونظرا للتركيز علي المذهبية واعتبارها مركز العملية التعليمية, تتم عملية التلقين في فضاء تواصلي مغلق, حصري, ودائري, في حين يسود داخل جمعيات أخري قدر من التسامح وحرية وإن كان ذلك لا يتعدي حدود المذهبية بل يبقي داخل أسوارها.
وعلي كل حال, و بالرغم من اختلاف طرق بث المضمون الديني في كلا النوعين من السلفية, فإنهما يتفقان علي أن الهدف النهائي هو تلقين الإيديولوجيا السلفية بحيث يمكن اعتبار المعرفة والعقيدة شيئا واحدا علي أساس أنهما يحملان رؤية أحادية في تفسير العالم وإعطاء معني موحدا للعالم والأشياء..
يعتبر التماهي من بين اللآليات السيكولوجية التي تستعين بها الحركات السلفية في عملية التلقين الإيديولوجي, ولا يتحقق هذا التماهي عند المجموعات السلفية بمجرد الأداء الجماعي والموحد للطقوس الدينية, بل بسلوكيات أخري منها ما ليس منحدرا من التعاليم الدينية بالضرورة, ففي البداية, يستعمل السلفيون المقابلات الرمزية التي تعوض الأسماء الحقيقية للأتباع( أبو حفص- أبو سهل...)في علامة علي تفضيل الانتماء علي الطائفة علي الانتماءات الاجتماعية الأخري, كما يعد الالتزام بالسمت السلفي شرطا أساسيا لقبول الفرد في التنظيم, فمن القواعد المهمة التي يجب أن يظهرها الدعاة, الحرص علي التمسك بالسنة ظاهرا وباطنا, في علاقاتهم الخاصة والعامة علي السواء, يجب أن يكونوا صورة يتحرك من خلالها القرآن. ففي التصور السلفي لا تملي العقيدة السلوك التعبدي المثالي فحسب, وإنما آداب الحياة بما فيها تفاصيل الأكل واللباس والهيئة( الرائحة الطيبة والتجمل الموافق للسنة..) فكل ذلك عوامل مساعدة في الدعوة,مما يمكن معه اعتبار السلفية ذات نزعة تدينية استعراضية.
ومما يقوي التماهي بين أعضاء الجماعة, ما تخضع الحياة الجماعية في مقرات الحركات السلفية من قواعد صارمة تنسحب علي جميع نواحي الحياة, فهناك شكليات تنسحب علي تفاصيل الحياة اليومية بشكل يجعل الأتباع مراقبين باستمرار, و بشكل يبعد التابع الجديد رمزيا علي الأقل, عن وسطه القديم ويقربه من محيطه الجديد داخل الجماعة السلفية.
وبقدر ما يولد التماهي مصدرا للاعتبار الذاتي وشعورا بالاعتزاز من خلال الانتماء إلي جماعة سلفية, بقدر ما يولد ذلك نوعا من الكبرياء والتعالي وقدرا من التعصب لمعايير الجماعة وتقاليدها. والنتيجة: تحقيق التمايز عن العالم الخارجي وتوجيه العدوانية الرمزيه تجاهه من طرف التنظيمات السلفية التقليدية والمادية من طرف السلفية الجهادية, وبشكل عام تبقي الجماعة السلفية ايا كان نوعها بالنسبة للمنتمين إليها المصدر الوحيد لكل قيمة واعتبار.
1ـ الاعتناء بمسألة التوحيد:
إن التيمة الأساسية في إيديولوجيا الحركات السلفية سواء كانت تقليدية أو جهادية هي التوحيد, ويعني إفراد الله بالعبادة دون سواه, فالمجتمع انعكاس, أو ينبغي أن يكون انعكاسا لهذا التوحيد الإلهي, فإذا كان التوحيد صفة أساسية للذات الإلهية, فإنه في المجتمع تحتاج إلي تحقق وبناء, وترجمة التوحيد علي مستوي المجتمع لا يتم إلا عن طريق تحقيق مجموعة من مشاريع الوحدة: منها وحدة العقيدة, ووحدة الشعائر...
أن الحقل الدلالي الذي يفتح عليه مفهوم التوحيد لا يقف عند هذا الموقف الأصولي في الاعتقاد والذي مضمونه:' الاعتقاد بالله كما وصف به نفسه من غير تعطيل أو تـأويل', وإنما يمتد ليشمل ضوابط للممارسة الدينية, فإذا كان الإسلام يقيم العقيدة علي مقولة التوحيد, فإن السلوك والممارسة ينضبطان بهذا المبدأ انضباطا مطلقا لا مجال فيه لإشراك غير الله في العبادة بأي طريقة سواء كانت صلاة أو تقربا أو دعاء.
إن انتقال الكلام عن التوحيد من مجال المعتقدات إلي مجال الممارسة, جعلت السلفيين ليسوا فقط أصحاب رؤية عقدية بالمعني الحصري للكلمة, وإنما أصحاب مواقف وردود علي واقع الممارسة التعبدية في المجتمع, وهذا ما يجعل من السلفية نوعا من البروتستانتية الإسلامية بتأكيدها علي انه لا حكم لغير الله, ورفض لكل تهاون في مسألة الوحدانية وما يرتبط بها من أخلاقيات.
و من خلال مفهوم التوحيد يصبح الإيمان عند السلفية وحدة كمية قابلة للقياس,بحيث يمكن في كل وقت وحين اختبار سلوكيات المؤمن وممارساته التعبدية والنظر فيما إذا كانت موافقة ومجسدة لمبدأ التوحيد,وفي ذلك مسافة كبيرة من المفهوم الصوفي للإيمان الذي يفسر بمنطق عاطفي روحاني وليس باعتباره مكونا فيزيائيا يعتمد علي المعطيات الحسية.
2ـ تصلب الخطاب:
هناك مبدءان يشكلان منبع هذا التصلب: الأول, رفض الشرك والإصرار علي التوحيد الذي يجب أن يخضع له كل سلوك بشري, بحيث يشكل مبدأ التوحيد الخلفية التي تقاس عليها شرعية كل التصرفات والمواقف والأفعال والمقولات حتي ولو لم تكن بالضرورة دينية. فأي نوع من التفكير والفعل لا ينطلق من التوحيد هو نوع من عبادة الذات. وبذلك تضع السلفية المسلم أمام طريقين لا ثالث لهما فإما أن يكون سلفيا أو لا يكون مسلما بإطلاق. والثاني ؤية الصارمة جدا والملتزمة بحرفية القرآن وفق التقليد الحنبلي, والذي يجعل كل شيء يعود إلي منطوق القرآن والسنة.
وبهذا تكون السلفية محاولة نشطة لتكوين أورثوذوكسية واحدة لكافة السكان, نوع من الإصرار علي تأسيس مذهب فقهي متجانس مع العقيدة, وثورة علي التقاليد الدينية الكلاسيكية واعتماد الإسلام النصوصي الذي يحيل علي القران والسنة كمناط كل تفكير وسلوك.
يؤدي الانطلاق من هذين المبدأين إلي اتصاف السلفية بطابع عام, يجعلها نمطا فكريا أحادي الطبيعة, مجموعة من المقولات القاطعة والحاسمة المكتفية بذاتها التي لا حاجة لها إلي منبه خارجي يوقظ وعي الذات السلفية, بل بمجرد الارتداد إلي تعاليم السلف.
ولهذا التصلب انعكاسات هامة, إذ أنه سمة تستغرق مختلف الأنشطة السلفية بشكل مباشر أو غير مباشر, ومن مظاهر ذلك أن معظم دروس الطائفة موجه نحو التحذير من البدع والطوائف المتبنية لها بشكل ينتج عنه هجوم شرس علي مجموعة من صيغ الإسلام:
- الإسلام الشعبي متمثلا في ما ترسب في المجتمع المغربي من عادات دينية, مثل الاحتفال بعيد المولد النبوي وزيارة المقابر ومظاهر الاحتفال الصوفية وتقديس الأولياء, وغيرها من المظاهر التي ينافي إسلام السلف حسب المذهب السلفي.
- الإسلام الحركي متمثلا في الحركات الإسلامية, لما قامت علية من' انحرافات عقدية ومخالفات لمنهج الدعوة القائم علي أولوية مهمة الإصلاح العقائدي والتربوي وهامشية الإصلاح السياسي مقارنة مع هذه المهمة العبادية'.
-الإسلام العالم' الذي يسلك منهج التوفيق في كل الأمور الدينية بما فيها العقائدية والعبادية بشكل أضاع معه رسالة الدعوة'.
- الإسلام الرسمي لتعصبه لمذهبية واحدة دون سائر المذاهب.
3ـ الآباء المؤسسون:
يشترك السلفيون أيضا في القول بضرورة الأخذ عن السلف الصالح المشهود له بالخيرية, و ذلك باستعمال ما كان من كلامهم الذي هو الفهم الصحيح للكتاب والسنة, وهكذا فالطريق إلي الوصول علي المعني الصحيح هو الرجوع إلي ما كان عليه الأولون والأخذ بفهومهم للنص الديني.
ويتنج عن المكانة التي يحتلها السلف الصالح عند السلفيين الإصرار علي واجب التعامل معهم كناقلين لمعرفة مقدسة, وفي نفس الوقت فإن السلف هي الجماعة المنتجة للآليات التي يجب التعامل بها مع تلك المعرفة, فلا وجود لآية من كتاب الله أو حديث نبوي فاتت الصحابة والتابعين أو تركوها بدون تفسير واضح.
فبإحالتها علي السلف, لا تقصد الإيديولوجيا السلفية مجرد الارتداد علي أسماء يحتفظ لها التاريخ بمكانة اعتبارية, بل تريد السلفية تأكيد تساميها وتفوقها علي ما يخالفها من أفكار عبر التاريخ الإسلامي.
كما يطعن السلفيون في ما يشكل سلفا بالنسبة لاتجاهات الفكر الديني الأخري ومن أبرزها ما ينعتونه' بالمدرسة العقلية' التي تمثل لديهم خطا فكريا متواصلا امتد من الغزالي وتجسد عند الأفغاني ومحمد عبده, ووجد ترجمته في خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة, واصفين سلف وخلف هذه المدرسة بالحمق والطيش لما نشأت عليه من عقائد فاسدة, وما مارسته من توفيقية فكرية كان هدفها التصالح مع الغرب.
وتتجسد المكانة التي يتبوؤها السلف في المساحة التي تحتلها مقولاتهم في المتن السلفي بحيث تستغرق هذه الأخيرة مقولات هؤلاء معظم مساحات الكتب الحديثة الصادرة عن السلفيين قدمائهم ومعاصريهم, فما أن يقدم المؤلف لموضوعه حتي يبدأ في استعراض أقوال السلف ممن أفاضوا في المسألة محل البحث, فيكون المؤلف عبارة عن تجميع مقولات كثيرة يراد لها أن تقوم مقام الحجة بالنسبة للمؤلف, بحيث لا يظهر دور هذا الأخير إلا بعد صفحات متعددة من الإحالات ليسجل فضل هؤلاء وعبقريتهم التي لم تترك له مجالا للإضافة أو التحسين, وإنما مجرد المحاججة بأقوالهم علي ما يخالفها من تفسيرات.
4 ـ النصوصية:
تشترك السلفيات علي اختلاف أنواعها باتسام خطابها بالنصوصية: يكمن اعتبار السلفية نمطا من الفكر يقتصر علي استخدام المصطلح الإسلامي الأصلي, ويتخذ من قيم الإسلام ومبادئه المعيار الوحيد في النظر والحكم, ومن النص النقلي مرجعه النهائي في التدليل والإثبات, دون ان يستوحي عناصر فكرية مستقلة من خارج الأصولية الإسلامية للاستعانة في تبريره الفكري ودفاعه العقدي.
يضخم السلفيون من دور النص, ويتجاهلون دور العامل الإنساني الذي يقوم بتفسير النص, ويرون أن النص ينظم معظم جوانب الحياة, ومن يحدد معناه هو قراءة من الصحابة, أما الآخرون, فتنحصر وظيفتهم في تلقي النص وتطبيقه. ففي النموذج السلفي, لا علاقة لذاتيات الطرف المفسر غير الصحابي بفهم الأحكام الإلهية أو تنفيذها, فهذه الأحكام موجودة بالكامل وبوضوح في حرفية فهم السلف للنص, وبالتالي لا دور للتأملات الأخلاقية والجمالية الخاصة بالطرف المفسر ولا دور لتجاربه, بل لا حاجة إليها أصلا.
إن تركيز السلفية علي النصوص يجعل منها إسلاما أورثوذوكسيا مستغرقا في دقائق الشريعة وإذعان لسلطان مستمد من الشريعة وحدها. والنتيجة, عدم قدرة الخطاب السلفي علي تطوير خطاب منظر للعقيدة حيث يخلو من مفاهيم ونظريات المقعدة هذا المبحث, لصالح مجموع مواقف عقائدية متصلبة لا تبني ذاتها و لا تبرر وجودها إلا من خلال احتكار الفهم الصحيح للنصوص, و التميز بذلك عن الاتجاهات العقائدية الأخري.
ونظرا لهذه النصوصية, يرفض الخطاب السلفي استخدام السببية الاجتماعية كعنصر في التحليل, بحيث ينظر إلي المجتمع علي أنه ككيان توحده العقيدة وليس كجسم تربطه مصالح اجتماعية وعلاقات إنسانية, وإذا صادف أن أشير إلي بعض مظاهر الحركية المجتمعية في سياق الحديث, فإنها تفعل ذلك في معرض التبرير أو التنديد بدون أدني تحليل للأسباب و الدوافع.
5 ـ الشكلانية:
تظهر شكلانية الخطاب علي مستوي السلوكيات التعبيرية للخطاب السلفي وهو ما يتبين من خلال طرق السلفيين إدارة الدروس اليومية في أسلوبهم في الحوار والمجادلة والحجاج.
ففي الدروس اليومية تعضد الشكلانية بواسطة التكرار الطقوسي للمواضيع وشرحها شروحات مستفيضة, فهناك كلمات محورية يدور حولها جميع الدروس, كما أن نفس المواضيع تكون حاضرة باستمرار داخل كل الدروس الملقاة, ويهدف هذا التكرار إلي توحيد الدلالة عند المستمعين, أي انها مواضيع منغلقة سيميائيا علي نفسها بشكل يجعل النمطية تتسرب إلي الدروس, بحيث لا تقدم للمتلقي المستقل الحافز لمعاودة الحضور إليها.
وإذا كانت الخصائص السابقة هي سمة لكل الخطابات الأيديولوجية, فإنها تبلغ أقصي درجاتها عند السلفيين, بحيث يؤدي السرد المتكرر والمتواصل للوثوقيات والبديهيات الدينية إلي إبعاد المتلقي عن كل محاولة للنقد أو إصدار أحكام خارج محددات الإيديولوجيا
يختلف أسلوب الحجاج الذي يستخدمه السلفيون في مواجهة المتناظرين معهم, وذلك حسب مستوي المعارف العقائدية المتوفرة لدي هؤلاء, هكذا تتراوح الإستراتيجية الحجاجية السلفية بين نوعين, النقد الشديد في حالة التمكن العقائدي, أو المشاركة النقاشية في حال الإيمان العقائدي المتردد أو غير الواعي. ففي الحالة الأولي, توصي منهجية الدعوة بالتوقف عند مرحلة عرض الأدلة المضادة وغيرها من المضادات الدفاعية, دون الدخول في جدل قد يؤثر في الداعية السلفي نفسه في حالة التمكن العقائدي للمتجادل معه. أما في الحالة الثانية, فيكون المجهود الدعوي أكثر انبناء لأنه لا يتوقف عند مستوي هدم المرتكزات العقائدية السابقة, بل يروم إلي إعادة بناء مذهبية جديدة. فعلي الداعية السلفي أن لا يترك المتلقي إلا وقد تمت أعلن هدايته, أو عندما يضمن انخراطه اللغوي علي الأقل.
6- الموقف من الطقوس العبادية:
هنا يستعمل السلفيون مفهوم البدعة لتعني المحدثات التي لا أصل لها في القرآن وسلوك الصحابة.
يوظف السلفيون مفهوم البدعة كثيرا عند حديثهم عن وسائل الدعوة, وخصوصا عندما يريدون تمييز منهجيتهم الدعوية عن تلك السائدة لدي الحركات الإسلامية, فإذا كان الكثير من الفاعلين في هذه الحركات يرون أن هذه الوسائل اجتهادية, بما يعني حرية الداعي في اختيار ما يراه مناسبا من الوسائل التي تحقق الصلاح و الهداية للمدعوين, يقول السلفيون أن وسائل الدعوة مبنية كلها علي التوقيف, ذلك أن حال الأمة الإسلامية لا يصلح عندهم إلا بما صلح بها الأولون وأصلحوا, فالطريق إلي إصلاح الناس هو السبيل الذي درج عليه النبي ودرج عليه صحابته. وهذه السبل هي علي سبيل التحديد: الخطب المشروعة كخطبة الجمعة والعيدين, والحلقات العلمية, والإفتاء, والجهاد في سبيل الله, والنصيحة لائمة المسلمين وعامتهم. أما غيرها من الوسائل التي تستعملها الحركات الدعوية الأخري فهي بدعية, كالسماع المجرد, وتلحين القصائد, والتغني بها, والتمثيل والمسرحيات, وغيرها مما اعتاد عليه الإسلاميون عند إقامتهم أنشطتهم الدعوية. والخلاصة أنه لا يجوز بحال اتخاذ وسائل دعوية غير شرعية لا دليل عليها في السنة ولا سوابق لها عند الصحابة.
7- طرق التلقين:
من خلال تتبع نشاط الحركات السلفية باختلاف أنواعها, يتبين اعتمادها علي ميكانيزم التلقين كوسيلة للانتشار والتعبئة, لكن المعطيات توضح بجلاء اختلافا في مستويات الانفتاح والانغلاق الذي يواكب هذه العملية, فداخل جمعية محددة ونظرا للتركيز علي المذهبية واعتبارها مركز العملية التعليمية, تتم عملية التلقين في فضاء تواصلي مغلق, حصري, ودائري, في حين يسود داخل جمعيات أخري قدر من التسامح وحرية وإن كان ذلك لا يتعدي حدود المذهبية بل يبقي داخل أسوارها.
وعلي كل حال, و بالرغم من اختلاف طرق بث المضمون الديني في كلا النوعين من السلفية, فإنهما يتفقان علي أن الهدف النهائي هو تلقين الإيديولوجيا السلفية بحيث يمكن اعتبار المعرفة والعقيدة شيئا واحدا علي أساس أنهما يحملان رؤية أحادية في تفسير العالم وإعطاء معني موحدا للعالم والأشياء..
يعتبر التماهي من بين اللآليات السيكولوجية التي تستعين بها الحركات السلفية في عملية التلقين الإيديولوجي, ولا يتحقق هذا التماهي عند المجموعات السلفية بمجرد الأداء الجماعي والموحد للطقوس الدينية, بل بسلوكيات أخري منها ما ليس منحدرا من التعاليم الدينية بالضرورة, ففي البداية, يستعمل السلفيون المقابلات الرمزية التي تعوض الأسماء الحقيقية للأتباع( أبو حفص- أبو سهل...)في علامة علي تفضيل الانتماء علي الطائفة علي الانتماءات الاجتماعية الأخري, كما يعد الالتزام بالسمت السلفي شرطا أساسيا لقبول الفرد في التنظيم, فمن القواعد المهمة التي يجب أن يظهرها الدعاة, الحرص علي التمسك بالسنة ظاهرا وباطنا, في علاقاتهم الخاصة والعامة علي السواء, يجب أن يكونوا صورة يتحرك من خلالها القرآن. ففي التصور السلفي لا تملي العقيدة السلوك التعبدي المثالي فحسب, وإنما آداب الحياة بما فيها تفاصيل الأكل واللباس والهيئة( الرائحة الطيبة والتجمل الموافق للسنة..) فكل ذلك عوامل مساعدة في الدعوة,مما يمكن معه اعتبار السلفية ذات نزعة تدينية استعراضية.
ومما يقوي التماهي بين أعضاء الجماعة, ما تخضع الحياة الجماعية في مقرات الحركات السلفية من قواعد صارمة تنسحب علي جميع نواحي الحياة, فهناك شكليات تنسحب علي تفاصيل الحياة اليومية بشكل يجعل الأتباع مراقبين باستمرار, و بشكل يبعد التابع الجديد رمزيا علي الأقل, عن وسطه القديم ويقربه من محيطه الجديد داخل الجماعة السلفية.
وبقدر ما يولد التماهي مصدرا للاعتبار الذاتي وشعورا بالاعتزاز من خلال الانتماء إلي جماعة سلفية, بقدر ما يولد ذلك نوعا من الكبرياء والتعالي وقدرا من التعصب لمعايير الجماعة وتقاليدها. والنتيجة: تحقيق التمايز عن العالم الخارجي وتوجيه العدوانية الرمزيه تجاهه من طرف التنظيمات السلفية التقليدية والمادية من طرف السلفية الجهادية, وبشكل عام تبقي الجماعة السلفية ايا كان نوعها بالنسبة للمنتمين إليها المصدر الوحيد لكل قيمة واعتبار.
أوجه الاختلاف بين السلفية التقليدية والجهادية:
كما أن الاشتراك في الانتماء إلي مذهبية دينية واحدة يحدث تماسكا أخلاقيا واجتماعيا كبيرا, فإن الاختلاف الذي يحدث في فهم أحد عناصر هذه المذهبية يحدث تباينا بين الأطراف المتبنية لهذه المذهبية حيث تشحن المذهبية بمساهمات جديدة أقل أو أكثر تصلبا, هذا إذا لم تصبح, تحت ضغط الأحداث, متسمة بقوة البراغماتية.أو بالمزيد من الراديكالية السياسية.
1-السلفية والسياسة:
فإذا كانت جميع السمات السابقة مشتركة عند كل الحركات السلفية, فإن ما يفرق بينها هو الشرط الموضوعي المتمثل في الموقف من السلطة السياسية تحديدا, ويكاد هذا الشرط يشكل المفصل المميز بين بقاء الخطاب عند حدود العنف الرمزي أو تلك التي تجاوز ذلك نحو تبني العنف المادي. لكن يجب الانتباه إلي ذلك حتي ولو لم يكن هناك عنف مادي عند المسماة تقليدية أو معتدلة, حتي ولو لم تكن الحلول التي يتبناها هذا التيار ثورية بالمعني المادي, إلا انها كذلك من الناحية الرمزية, فالشعور بابتعاد المجتمع عن الدين الصحيح يؤدي إلي تفاديه للعيش علي شكل طوائف منعزلة من حيث وجودها الرمزي.
في مقابل تضخم البعد السياسي في خطاب السلفية الجهادية في المقابل نجد خطاب السلفية التقليدية يزدري السياسة ويبعدها من اهتماماته, لكنه إذا كان من المستحيل, الحديث عن خطاب سياسي لدي الاتجاهات السلفية التقليدية, فإن الامتثالية السياسية تشكل مبدأ ناظما لفعلها السياسي, إذ تختصر السلفية فعلها السياسي في هذا المبدأ, وتبعد من خلاله كل حديث مفصل عن السياسة بكل ما يتفرع عنه من قضايا.
علي المستوي النظري, تظهر هذه الامتثالية في منع الاشتغال علي الإشكاليات السياسية بحيث تعتبر السلفية التقليدية أن من ترف العلم صياغة نظريات سياسية ثم التحدث في شأنها وصياغة احتمالات بصددها مثل: لمن الحق في إزالة الحاكم غير الخاضع لحكم الشريعة؟ فالخوض في ذلك يجانب منهج السلف الصالح الذين لا يتحدثون في القضايا إلا عند وقوعها, وهذا هو أسلوب الدعوة الذي يجب أن يتبع, وليس التنظير وبناء الأحكام علي تصورات خيالية.
ومن المبادئ المؤسسة للامتثالية عند السلفية التقليدية الشعار القائل' لا نكران ولا هجران ولا خروج'. والمعني, أن التمرد والخروج علي ولي الأمر فيه مفاسد كثيرة ولا خير فيه للأمة الإسلامية..مهما بلغ ظلمهم وجورهم.
من الواضح إذن, أن جزءا من الحورارت السلفية المعاصرة تكتفي بترديد الإيديولوجيا التقليدية التي روجها العلماء القدامي, عندما قالوا بوجوب الطاعة الكاملة وعدم شرعية الإعلان عن الجهاد علي السلطان وجر الأمة إلي الفتنة وخدمة العدو, ليبقي مجال التحرك السياسي الوحيد المتوفر هو النصيحة, من خلال المشورة مع إبدائها بمراعاة للضوابط الشرعية, بعيدا عن لغة الإلزام أو التشهير, فالبلاغ يقيم الحجة ويبرئ الأمة.
إن إنكار العمل السياسي مقابل العمل الذي يعتبر عند السلفيين شرعيا ومنطقيا في آن واحد: نبدأ بالعقيدة ثم بالعبادة ثم بالسلوك تصحيحا وتربية, أما التحرك السياسي قبل تحقيق التصفية و التربية, فلن تكون له سوي نتائج سيئة.
2ــ الموقف من الجهاد:
يؤدي ازدراء الجهاد من لدن السلفية التقليدية إلي الإشتغال بالنشاطات خيرية ويتحملون نفقات الأطفال في المدارس القرآنية ويجمعون العاطلين في المساجد للصلاة, ويعملون علي إعادة تنظيم وجودهم بتقليد المثال النبوي حرفيا, فهم يبعدون هؤلاء عن الجنوح والسلوكيات الاحتجاجية كما يبعدونهم عن السلفية الجهادية.
لقد جرت الامتثالية المطلقة للتيارات السلفية التقليدية للسلطة علي نفسها هجوما من أقطاب السلفية الجهادية بحيث ينعتونهم بالمهادنين والمعطلين بفريضة الجهاد حتي أن بعضهم يصرون علي تسمية اتجاههم الدعوي باسم أهل السنة والجماعة تمييزا للخط السلفي التقليدي.
لكنه عند الحركات الجهادية, لا يعبر الجهاد سوي عن عمل فردي بمعني انه غير مؤطر أيديولوجية محددة يصبح معها عملا جماعيا مؤسساتيا, فبالرغم مما يعطيه من الجهاديون من أهمية وأولوية للجهاد, فإنه يبقي واجبا شخصيا (فرض عين) علي كل فرد وفي كل وقت, في حين أن التقليد الجماعي ومنه التقليد السلفي التقليدي يعتبره واجبا جماعيا ( فرض كفاية), أي أنه ينحصر ضمن حدود جغرافية زمنية, ويتوجب علي كل جماعة تتعرض لتهديد عدواني, وعليه فإن السلفية الجهادية تتصور العنف الذي يمارس باسم الإسلام, أنه عبادة فرد لا تعبر مطلقا عن إرادة الجماعة.
وبما انه جهاد فردي, فإنه لا يعتمد علي أي خطة استراتيجية ولا يرسم أي أهداف سياسية, والدليل أنه لم يرسم أية خطة لما بعد11 سبتمبر2001. فعلي عكس عنف الإسلاميين الكلاسيكيين الذي يبقي دوما قابلا للمفاوضة, بعكس العنف السلفي الذي لا يسعي إلي تطبيق برنامج محدد ولا يرتجي نتيجة ملموسة, بل يختار أتباعه الموت لما يحمله من معان ورموز. لذلك فالتفاوض معهم مستحيل.
3 ــ التنظيم:
يعبر الخط السلفي التقليدي عن نفسه عبر عدة جمعيات تحمل أسماء متعددة مثل جمعية الدعوة وجمعية الإمام مالك جمعية الحافظ بن عبد البر, ولكن بعض شيوخ السلفية الجهادية يرفضون تأسيس الجمعيات ويعتبرون ذلك طريقة بدعية في ممارسة الدعوة ويتجهون نحو ممارسة النشاط في خلايا صغيرة( الميلودي زكرياء), أو إلي ممارسة الدعوة عبر الانخراط في المنظمات الأهلية كالوداديات السكنية( أبو حفص), في حين دفع رفض السلطة الترخيص لجمعية أهل السنة والجماعة بفاس بالفيزازي إلي الحراك في جمعية الدعوة إلي الله التي يوجد مقرها بنفس المدينة.
بالرغم من إغلاق العديد من دور القرآن ومنع كثير من الجمعيات الدينية من ممارسة نشاطها عقب الأحداث, فقد تمكن العمل السلفي التقليدي من مواصلة التعبير عن نفسه, و يبدو أن السلفية التقليدية قد وضعت في حسابها ما قد يعرفه المجال الديني من تقلبات, واحتمال تغير هذه السياسة الرسمية وبالتالي تغير موقف السلطات إزاءها. لذلك, فإن إغلاق دور القرآن التابعة رسميا لجمعية الدعوة, لم ينجم عنه اجتثاث فروعها المتمثلة في دور القرآن التابعة لجمعيات مستقلة اسميا, ولكنها تابعة للخط السلفي التقليدي., وبهذا الشكل يتخذ تنظيم جمعية الدعوة وضعية نسق فرعي داخل المجتمع, مما يجعلها قادرة علي مواجهة متطلبات المراحل القادمة واحتمالات تصادمها مع المصالح المتغيرة هذا عكس السلفية الجهادية التي اجتثث فروعا واعتقل زعماؤها بسرعة بعد أحداث 16 مايو.
ومن خلال المظاهر التنظيمية التي نجحنا في رصدها تبين أن نتيجة عامة وهي أن تنظيم الطوائف الدينية هو في حد ذاته عامل محدد لما للحركة من إمكانات التطور وانتداب الأتباع. بحيث أن تلك الهيكلة التي تطبع تنظيمات السلفية التقليدية يسعفها في تقوية مستوي الاستقطاب والحفاظ علي المستقطبين علي صفوفها في حين أن عدم تحقق السلفية الجهادية تنظيميا لا يسعفها في ذلك, إذ أن كل ما تحصل عليه من المستقطبين هو الإقرار اللفظي بالانتماء دون أن يتجسد ذلك بالانخراط في تنظيم معين.
كما ان انعدام تنظيم محدد وجلي في صفوف التيارات الجهادية منعنا من دراسة مسألة القيادة في حين أن وجود هذا التنظيم عند التيارات التقليدية مكن من ذلك فقد انتهينا من خلال دراسة هذا الجانب, إلي وجود نوعين من القيادة: قيادة مركزية اوتوقراطية تغيب فيها تراتبيات السلطة, ثم القيادة الاندماجية التي تقوم علي نظام الاعتماد المتبادل, تكون القيادة فيه تعاونية يعمل فيها القائد كخادم للجماعة, فالكل يشارك كأقران في صنع القرارات. كما يتحمل الكل المسؤولية الناجمة عن تلك القرارات.
4- سوق الاستقطبات:
من خلال عينة قام بها الباحث في دراسة له تبين أن سن الأتباع المنتمين إلي الجمعيات السلفية التقليدية والسلفية الجهادية متقارب جدا, بحيث يتراوح سن الأفراد ما بين17 و28 سنة.
ومن ناحية المستوي التعليمي, يتضح أن أغلب أتباع السلفية سواء كانت تقليدية أو جهادية قد تلقوا تربية دينية, من أهم مظاهرها إما ارتياد المدارس الدينية العتيقة أو مؤسسات دور القرآن.
بالنسبة لمستويات أفراد العينة من التعليم العصري فكثيرا ما يلاقي السلفيون التقليديون والجهاديون صعوبة في تتمة مسارهم الدراسي مع ملاحظة أن ارتياد دور القرآن وغيرها من المعاهد السلفية كان عند البعض حلا لأزمة عاشوها مع التعليم النظامي ممثلا في الرسوب المتكرر.
إن المعطيات التي توفرت بوساطة البحث الميداني توضح أن أغلب الحساسيات السلفية ليس لها سوي حظ يسير من التربية المؤسساتية, فأتباعها إما عاطلون عن العمل أو شباب يافعون فقراء أو أرباب أسر حائرون يواجهون أبناء فقدوا سلطتهم التقليدية عليهم, ويعبرون عن احتجاجهم بتعاطي الكحول والمخدرات والانحراف قبل أن يتحولوا بفعل الدعاية السلفية إلي مبشرين ووعاظ هدفهم إرجاع البقية إلي جادة الدين.
إذن, ليس الاستقطاب من داخل القاعدة الاجتماعية خاصا بالسلفية الجهادية وحدها, لكنه أمر ملازم للحركات السلفية التقليدية ذاتها, بحيث إن ولوج العديد من الأشخاص إلي جمعية الدعوة يجد تفسيره في نجاحها في إخراج البعض منهم من الإدمان كان يفسد أخلاقهم, إلي وضعية أرقي تمكنهم من انتزاع اعتراف اجتماعي جديد, الشيء الذي كون انطباعا بجدوي وفعالية هذه الجمعيات, و أعطاها نوعا من المصداقية لدي الرأي العام, زاد منه ما قامت به من ربط بين عمل الوعظ والإرشاد وحركة إدماج الشباب في مقاولات اقتصادية صغيرة, مما وفر لبعض أتباعها مداخيل مالية.
ظهر من البحث أيضا أن بعض الجمعيات التقليدية الأكثر اشتغالا بتعليم العلم الشرعي مثل جمعية الحافظ ابن عبد البر التي تقوم بإعادة تأهيل أتباعها وتوفر لهم إمكانية استئناف مشوارهم الدراسي ذلك أنها تؤهل هؤلاء لاجتياز باكالوريا التعليم الأصيل, بحيث يمكن اعتبار المعهد جسرا يعبر منه طلبة المدارس العتيقة إلي الكليات النظامية.
تكمن محفزات الانتماء لهذا النوع من الجمعيات إذن في أنها تمكن الطالب من' استدراك' ما فات أتباعها وإعادة إدماجهم في مستويات متقدمة وقريبة من مستوي السنة الأخيرة من الباكالوريا, بحيث يمكن لأتباع الجمعية الترشح لهذا المستوي بعد سنوات قليلة من الدراسة في المعاهد السلفية التقليدية.
من الناحية الاقتصادية, بين التصنيف السوسيومهني لأفراد العينة أن العاطلين والممارسين لمهن هامشية وموسمية يأتون في مقدمة أتباع الحركات السلفية, فهم ينتمون في العادة إلي مدن الصفيح أو المدن الهامشية, فغالبيتهم باعة متجولون و مستخدمون وعمال ثم ممارسون لمهن صغيرة كالبقالة وبيع الخضر.. وهكذا دواليك حتي نصل إلي الخياط, والإسكافي, وبائع ماء الإعشاب, وبائع السمك, وسائق سيارة الأجرة, والميكانيكي, والكهربائي..إنها مهن يومية لا تتيح لأصحابها انخراطا قويا في العالم, وبالتالي فهي مجال مهم للنشاط التعبوي للحركات السلفية, التي يمكن اعتبارها حركة تمارس التعبئة علي مستوي القاعدة المجتمعية.
يتعلق الأمر إذن بشعور بدونية اقتصادية واضحة, لكنه وإذا ما كانت الحركات الجهادية تواجه هذه الدونية الاقتصادية بتعبئة أتباعها بالدعوة إلي نصرة الجهاد أو إلي القيام به, فإن الحركات السلفية التقليدية تواجهه بالوعظ الديني, وبذلك فهي تقوم, في واقع الأمر, بإخفاء الأسباب الحقيقية التي رجحت الإقبال عليها, إنها تقوم بمكافحة الفقر بالمعاني الجمعية التي تتشكل من خلال العيش داخلها, فليس من مصلحة الحركة أن يعي أتباعها طبيعة الحرمان الذي كان في مصدر انتمائهم لها, لأنها ستضطر عندئذ إلي وضح حلول عقلانية ودنيوية للتغلب علي الحرمان مما سيقضي عليها كحركة دينية, فالحل الديني الذي يتمثل في حالتنا بخطاب الوعظ هو في الحقيقة تعويض عن الشعور بالدونية الاقتصادية أكثر منه مجهودا للتغلب عليها. ومن ناحية أخري قادت دراسة الصلاة العائلية والقرابية للمناضلين السلفيين الجهاديين إلي استنتاج تمايز في طرق التعبئة بين السلفية التقليدية والجهادية. ففيما يتعلق بحركة الجهاد السلفي, فإن للعائلة والصداقة دورا كبيرا في مواصلة تعبئة المجندين, حيث يتم الالتحاق بالحركات الجهادية عبر ثلاث مراحل: مرحلة الانخراط الاجتماعي في الجهاد بدافع الصداقة أو القرابة, ثم الترسيخ التدريجي للقناعات وللعقيدة حتي قبول إيديولوجية الجهاد السلفي, فالدخول الرسمي في الجهاد الذي يبدأ من خلال العثور علي قناة تقود إليه, أما الأوضاع المزرية النسبية والاستعداد الديني القبلي والانجذاب الإيديولوجي فتبقي من العوامل الضرورية, ولكنها ليست كافية من أجل إقناع الفرد باتخاذ قرار الاندماج في الجهاد.
كما أن الاشتراك في الانتماء إلي مذهبية دينية واحدة يحدث تماسكا أخلاقيا واجتماعيا كبيرا, فإن الاختلاف الذي يحدث في فهم أحد عناصر هذه المذهبية يحدث تباينا بين الأطراف المتبنية لهذه المذهبية حيث تشحن المذهبية بمساهمات جديدة أقل أو أكثر تصلبا, هذا إذا لم تصبح, تحت ضغط الأحداث, متسمة بقوة البراغماتية.أو بالمزيد من الراديكالية السياسية.
1-السلفية والسياسة:
فإذا كانت جميع السمات السابقة مشتركة عند كل الحركات السلفية, فإن ما يفرق بينها هو الشرط الموضوعي المتمثل في الموقف من السلطة السياسية تحديدا, ويكاد هذا الشرط يشكل المفصل المميز بين بقاء الخطاب عند حدود العنف الرمزي أو تلك التي تجاوز ذلك نحو تبني العنف المادي. لكن يجب الانتباه إلي ذلك حتي ولو لم يكن هناك عنف مادي عند المسماة تقليدية أو معتدلة, حتي ولو لم تكن الحلول التي يتبناها هذا التيار ثورية بالمعني المادي, إلا انها كذلك من الناحية الرمزية, فالشعور بابتعاد المجتمع عن الدين الصحيح يؤدي إلي تفاديه للعيش علي شكل طوائف منعزلة من حيث وجودها الرمزي.
في مقابل تضخم البعد السياسي في خطاب السلفية الجهادية في المقابل نجد خطاب السلفية التقليدية يزدري السياسة ويبعدها من اهتماماته, لكنه إذا كان من المستحيل, الحديث عن خطاب سياسي لدي الاتجاهات السلفية التقليدية, فإن الامتثالية السياسية تشكل مبدأ ناظما لفعلها السياسي, إذ تختصر السلفية فعلها السياسي في هذا المبدأ, وتبعد من خلاله كل حديث مفصل عن السياسة بكل ما يتفرع عنه من قضايا.
علي المستوي النظري, تظهر هذه الامتثالية في منع الاشتغال علي الإشكاليات السياسية بحيث تعتبر السلفية التقليدية أن من ترف العلم صياغة نظريات سياسية ثم التحدث في شأنها وصياغة احتمالات بصددها مثل: لمن الحق في إزالة الحاكم غير الخاضع لحكم الشريعة؟ فالخوض في ذلك يجانب منهج السلف الصالح الذين لا يتحدثون في القضايا إلا عند وقوعها, وهذا هو أسلوب الدعوة الذي يجب أن يتبع, وليس التنظير وبناء الأحكام علي تصورات خيالية.
ومن المبادئ المؤسسة للامتثالية عند السلفية التقليدية الشعار القائل' لا نكران ولا هجران ولا خروج'. والمعني, أن التمرد والخروج علي ولي الأمر فيه مفاسد كثيرة ولا خير فيه للأمة الإسلامية..مهما بلغ ظلمهم وجورهم.
من الواضح إذن, أن جزءا من الحورارت السلفية المعاصرة تكتفي بترديد الإيديولوجيا التقليدية التي روجها العلماء القدامي, عندما قالوا بوجوب الطاعة الكاملة وعدم شرعية الإعلان عن الجهاد علي السلطان وجر الأمة إلي الفتنة وخدمة العدو, ليبقي مجال التحرك السياسي الوحيد المتوفر هو النصيحة, من خلال المشورة مع إبدائها بمراعاة للضوابط الشرعية, بعيدا عن لغة الإلزام أو التشهير, فالبلاغ يقيم الحجة ويبرئ الأمة.
إن إنكار العمل السياسي مقابل العمل الذي يعتبر عند السلفيين شرعيا ومنطقيا في آن واحد: نبدأ بالعقيدة ثم بالعبادة ثم بالسلوك تصحيحا وتربية, أما التحرك السياسي قبل تحقيق التصفية و التربية, فلن تكون له سوي نتائج سيئة.
2ــ الموقف من الجهاد:
يؤدي ازدراء الجهاد من لدن السلفية التقليدية إلي الإشتغال بالنشاطات خيرية ويتحملون نفقات الأطفال في المدارس القرآنية ويجمعون العاطلين في المساجد للصلاة, ويعملون علي إعادة تنظيم وجودهم بتقليد المثال النبوي حرفيا, فهم يبعدون هؤلاء عن الجنوح والسلوكيات الاحتجاجية كما يبعدونهم عن السلفية الجهادية.
لقد جرت الامتثالية المطلقة للتيارات السلفية التقليدية للسلطة علي نفسها هجوما من أقطاب السلفية الجهادية بحيث ينعتونهم بالمهادنين والمعطلين بفريضة الجهاد حتي أن بعضهم يصرون علي تسمية اتجاههم الدعوي باسم أهل السنة والجماعة تمييزا للخط السلفي التقليدي.
لكنه عند الحركات الجهادية, لا يعبر الجهاد سوي عن عمل فردي بمعني انه غير مؤطر أيديولوجية محددة يصبح معها عملا جماعيا مؤسساتيا, فبالرغم مما يعطيه من الجهاديون من أهمية وأولوية للجهاد, فإنه يبقي واجبا شخصيا (فرض عين) علي كل فرد وفي كل وقت, في حين أن التقليد الجماعي ومنه التقليد السلفي التقليدي يعتبره واجبا جماعيا ( فرض كفاية), أي أنه ينحصر ضمن حدود جغرافية زمنية, ويتوجب علي كل جماعة تتعرض لتهديد عدواني, وعليه فإن السلفية الجهادية تتصور العنف الذي يمارس باسم الإسلام, أنه عبادة فرد لا تعبر مطلقا عن إرادة الجماعة.
وبما انه جهاد فردي, فإنه لا يعتمد علي أي خطة استراتيجية ولا يرسم أي أهداف سياسية, والدليل أنه لم يرسم أية خطة لما بعد11 سبتمبر2001. فعلي عكس عنف الإسلاميين الكلاسيكيين الذي يبقي دوما قابلا للمفاوضة, بعكس العنف السلفي الذي لا يسعي إلي تطبيق برنامج محدد ولا يرتجي نتيجة ملموسة, بل يختار أتباعه الموت لما يحمله من معان ورموز. لذلك فالتفاوض معهم مستحيل.
3 ــ التنظيم:
يعبر الخط السلفي التقليدي عن نفسه عبر عدة جمعيات تحمل أسماء متعددة مثل جمعية الدعوة وجمعية الإمام مالك جمعية الحافظ بن عبد البر, ولكن بعض شيوخ السلفية الجهادية يرفضون تأسيس الجمعيات ويعتبرون ذلك طريقة بدعية في ممارسة الدعوة ويتجهون نحو ممارسة النشاط في خلايا صغيرة( الميلودي زكرياء), أو إلي ممارسة الدعوة عبر الانخراط في المنظمات الأهلية كالوداديات السكنية( أبو حفص), في حين دفع رفض السلطة الترخيص لجمعية أهل السنة والجماعة بفاس بالفيزازي إلي الحراك في جمعية الدعوة إلي الله التي يوجد مقرها بنفس المدينة.
بالرغم من إغلاق العديد من دور القرآن ومنع كثير من الجمعيات الدينية من ممارسة نشاطها عقب الأحداث, فقد تمكن العمل السلفي التقليدي من مواصلة التعبير عن نفسه, و يبدو أن السلفية التقليدية قد وضعت في حسابها ما قد يعرفه المجال الديني من تقلبات, واحتمال تغير هذه السياسة الرسمية وبالتالي تغير موقف السلطات إزاءها. لذلك, فإن إغلاق دور القرآن التابعة رسميا لجمعية الدعوة, لم ينجم عنه اجتثاث فروعها المتمثلة في دور القرآن التابعة لجمعيات مستقلة اسميا, ولكنها تابعة للخط السلفي التقليدي., وبهذا الشكل يتخذ تنظيم جمعية الدعوة وضعية نسق فرعي داخل المجتمع, مما يجعلها قادرة علي مواجهة متطلبات المراحل القادمة واحتمالات تصادمها مع المصالح المتغيرة هذا عكس السلفية الجهادية التي اجتثث فروعا واعتقل زعماؤها بسرعة بعد أحداث 16 مايو.
ومن خلال المظاهر التنظيمية التي نجحنا في رصدها تبين أن نتيجة عامة وهي أن تنظيم الطوائف الدينية هو في حد ذاته عامل محدد لما للحركة من إمكانات التطور وانتداب الأتباع. بحيث أن تلك الهيكلة التي تطبع تنظيمات السلفية التقليدية يسعفها في تقوية مستوي الاستقطاب والحفاظ علي المستقطبين علي صفوفها في حين أن عدم تحقق السلفية الجهادية تنظيميا لا يسعفها في ذلك, إذ أن كل ما تحصل عليه من المستقطبين هو الإقرار اللفظي بالانتماء دون أن يتجسد ذلك بالانخراط في تنظيم معين.
كما ان انعدام تنظيم محدد وجلي في صفوف التيارات الجهادية منعنا من دراسة مسألة القيادة في حين أن وجود هذا التنظيم عند التيارات التقليدية مكن من ذلك فقد انتهينا من خلال دراسة هذا الجانب, إلي وجود نوعين من القيادة: قيادة مركزية اوتوقراطية تغيب فيها تراتبيات السلطة, ثم القيادة الاندماجية التي تقوم علي نظام الاعتماد المتبادل, تكون القيادة فيه تعاونية يعمل فيها القائد كخادم للجماعة, فالكل يشارك كأقران في صنع القرارات. كما يتحمل الكل المسؤولية الناجمة عن تلك القرارات.
4- سوق الاستقطبات:
من خلال عينة قام بها الباحث في دراسة له تبين أن سن الأتباع المنتمين إلي الجمعيات السلفية التقليدية والسلفية الجهادية متقارب جدا, بحيث يتراوح سن الأفراد ما بين17 و28 سنة.
ومن ناحية المستوي التعليمي, يتضح أن أغلب أتباع السلفية سواء كانت تقليدية أو جهادية قد تلقوا تربية دينية, من أهم مظاهرها إما ارتياد المدارس الدينية العتيقة أو مؤسسات دور القرآن.
بالنسبة لمستويات أفراد العينة من التعليم العصري فكثيرا ما يلاقي السلفيون التقليديون والجهاديون صعوبة في تتمة مسارهم الدراسي مع ملاحظة أن ارتياد دور القرآن وغيرها من المعاهد السلفية كان عند البعض حلا لأزمة عاشوها مع التعليم النظامي ممثلا في الرسوب المتكرر.
إن المعطيات التي توفرت بوساطة البحث الميداني توضح أن أغلب الحساسيات السلفية ليس لها سوي حظ يسير من التربية المؤسساتية, فأتباعها إما عاطلون عن العمل أو شباب يافعون فقراء أو أرباب أسر حائرون يواجهون أبناء فقدوا سلطتهم التقليدية عليهم, ويعبرون عن احتجاجهم بتعاطي الكحول والمخدرات والانحراف قبل أن يتحولوا بفعل الدعاية السلفية إلي مبشرين ووعاظ هدفهم إرجاع البقية إلي جادة الدين.
إذن, ليس الاستقطاب من داخل القاعدة الاجتماعية خاصا بالسلفية الجهادية وحدها, لكنه أمر ملازم للحركات السلفية التقليدية ذاتها, بحيث إن ولوج العديد من الأشخاص إلي جمعية الدعوة يجد تفسيره في نجاحها في إخراج البعض منهم من الإدمان كان يفسد أخلاقهم, إلي وضعية أرقي تمكنهم من انتزاع اعتراف اجتماعي جديد, الشيء الذي كون انطباعا بجدوي وفعالية هذه الجمعيات, و أعطاها نوعا من المصداقية لدي الرأي العام, زاد منه ما قامت به من ربط بين عمل الوعظ والإرشاد وحركة إدماج الشباب في مقاولات اقتصادية صغيرة, مما وفر لبعض أتباعها مداخيل مالية.
ظهر من البحث أيضا أن بعض الجمعيات التقليدية الأكثر اشتغالا بتعليم العلم الشرعي مثل جمعية الحافظ ابن عبد البر التي تقوم بإعادة تأهيل أتباعها وتوفر لهم إمكانية استئناف مشوارهم الدراسي ذلك أنها تؤهل هؤلاء لاجتياز باكالوريا التعليم الأصيل, بحيث يمكن اعتبار المعهد جسرا يعبر منه طلبة المدارس العتيقة إلي الكليات النظامية.
تكمن محفزات الانتماء لهذا النوع من الجمعيات إذن في أنها تمكن الطالب من' استدراك' ما فات أتباعها وإعادة إدماجهم في مستويات متقدمة وقريبة من مستوي السنة الأخيرة من الباكالوريا, بحيث يمكن لأتباع الجمعية الترشح لهذا المستوي بعد سنوات قليلة من الدراسة في المعاهد السلفية التقليدية.
من الناحية الاقتصادية, بين التصنيف السوسيومهني لأفراد العينة أن العاطلين والممارسين لمهن هامشية وموسمية يأتون في مقدمة أتباع الحركات السلفية, فهم ينتمون في العادة إلي مدن الصفيح أو المدن الهامشية, فغالبيتهم باعة متجولون و مستخدمون وعمال ثم ممارسون لمهن صغيرة كالبقالة وبيع الخضر.. وهكذا دواليك حتي نصل إلي الخياط, والإسكافي, وبائع ماء الإعشاب, وبائع السمك, وسائق سيارة الأجرة, والميكانيكي, والكهربائي..إنها مهن يومية لا تتيح لأصحابها انخراطا قويا في العالم, وبالتالي فهي مجال مهم للنشاط التعبوي للحركات السلفية, التي يمكن اعتبارها حركة تمارس التعبئة علي مستوي القاعدة المجتمعية.
يتعلق الأمر إذن بشعور بدونية اقتصادية واضحة, لكنه وإذا ما كانت الحركات الجهادية تواجه هذه الدونية الاقتصادية بتعبئة أتباعها بالدعوة إلي نصرة الجهاد أو إلي القيام به, فإن الحركات السلفية التقليدية تواجهه بالوعظ الديني, وبذلك فهي تقوم, في واقع الأمر, بإخفاء الأسباب الحقيقية التي رجحت الإقبال عليها, إنها تقوم بمكافحة الفقر بالمعاني الجمعية التي تتشكل من خلال العيش داخلها, فليس من مصلحة الحركة أن يعي أتباعها طبيعة الحرمان الذي كان في مصدر انتمائهم لها, لأنها ستضطر عندئذ إلي وضح حلول عقلانية ودنيوية للتغلب علي الحرمان مما سيقضي عليها كحركة دينية, فالحل الديني الذي يتمثل في حالتنا بخطاب الوعظ هو في الحقيقة تعويض عن الشعور بالدونية الاقتصادية أكثر منه مجهودا للتغلب عليها. ومن ناحية أخري قادت دراسة الصلاة العائلية والقرابية للمناضلين السلفيين الجهاديين إلي استنتاج تمايز في طرق التعبئة بين السلفية التقليدية والجهادية. ففيما يتعلق بحركة الجهاد السلفي, فإن للعائلة والصداقة دورا كبيرا في مواصلة تعبئة المجندين, حيث يتم الالتحاق بالحركات الجهادية عبر ثلاث مراحل: مرحلة الانخراط الاجتماعي في الجهاد بدافع الصداقة أو القرابة, ثم الترسيخ التدريجي للقناعات وللعقيدة حتي قبول إيديولوجية الجهاد السلفي, فالدخول الرسمي في الجهاد الذي يبدأ من خلال العثور علي قناة تقود إليه, أما الأوضاع المزرية النسبية والاستعداد الديني القبلي والانجذاب الإيديولوجي فتبقي من العوامل الضرورية, ولكنها ليست كافية من أجل إقناع الفرد باتخاذ قرار الاندماج في الجهاد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق