أئمة الشر .. الإخوان والشيعة
ما جرى فى السفارة
الاتصالات السرية بين بريطانيا وقيادات الإخوان خلال العدوان الثلاثى للإطاحة بعبد الناصر أو اغتياله
أنتونى إيدن قال فى مذكراته: الهضيبى كان حريصًا على علاقات ممتازة معنا على عكس ناصر
اليوم: الثامن والعشرون من شهر مارس.
العام: 2008.
الشخص: كين لفنجستون.
الوظيفة: عمدة لندن وأحد أقطاب حزب العمال البريطانى وأحد الأسماء البارزة فى سماء اليسار الأوروبى الداعم لعديد من القضايا العربية والإسلامية.
المشهد: خرج كين لفنجستون من مكتبه ليقف أمام عشرات من الصحفيين، وبعد أن تحدث معهم عن بعض الشؤون الخاصة بالعاصمة لندن سأله أحد الصحفيين عن خطر الجماعات الإسلامية الأصولية، فقال لهم مطمئنًا: «جماعة الإخوان كبرى هذه الحركات تربطنا بها علاقة جيدة، وقد كانت تتلقى تمويلا ماليا من الخارجية البريطانية منذ بداية نشأتها، فهى ليست بعيدة عنا إذن، وقد استخدمنا هذه الجماعة لسنوات طويلة وكانت مخلصة لنا، فقد كان نظام عبد الناصر خطرًا علينا، وعلى الجانب الآخر مثلت هذه الجماعة خطرا كبيرا على عبد الناصر ونظامه».
ورغم أن هذا التصريح كان مثِّل قنبلة فإن أحدًا عندنا فى الشرق لم يلتفت كثيرا له، كانت التبريرات التى خرجت من بعض قيادات الجماعة فى موقعهم الإلكترونى تذهب إلى أن «هذا العمدة رجل موتور حاقد كاره للإسلام وهو شيوعى قح فماذا تنتظرون منه؟ كما أن كلامه لم يكن موثَّقا، وهذا وحده كفيل بهدم كلامه».
النتيجة: لم تَلْقَ تصريحات لفنجستون العناية الكافية من الباحثين فى المنطقة العربية، ولم يصل صداها إلى الجماهير.
يكتب الكاتب الأمريكى روبرت دريفوس كتابه الشهير «لعبة الشيطان» عن دعم الولايات المتحدة الأمريكية للجماعات الأصولية وفى القلب منها جماعة الإخوان، ويقول فيه: «تأسست حركة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا بمنحة من شركة قناة السويس البريطانية، وخلال ربع القرن التالى تتلقى تلك الجماعة الدعم الكامل من الدبلوماسيين البريطانيين والمخابرات البريطانية».
ثم يقول أيضًا: «كانت هذه الجماعة هى القوة الوحيدة فى الشرق الأوسط التى تمثل ثقلا كبيرا فى عملية تحقيق التوازن ضد القوى المناهضة لبريطانيا وهى القوميين واليسار العلمانى».
استمر دريفوس فى الكتاب قائلا: «كان الدبلوماسى الأمريكى هيرمان إيلتس صديقا لحسن البنا وقد التقاه كثيرا»، وينقل دريفوس على لسان إلتس: «أعرف أحد زملائى فى السفارة الأمريكية كان يلتقى بشكل دورى مع حسن البنا وذلك لأغراض التقارير».
قد يكون دريفوس مبالغا، فلربما كانت فى نفسه مَوْجِدة من الإخوان، ولربما كان حاقدًا على حسن البنا، ولكن الوثائق لا تحقد، ولا تميل، ولا تحمل موجدة إنما تحمل حقائق وتروى تاريخا، لذلك كانت هناك أهمية بالغة لكيرتس، الذى أطلقت عليه كيرتس الرهيب.
يقول الكاتب الصحفى علاء عزمى فى بحث له منشور فى مجلة «آخر ساعة» عدد 16/8/2010: «مارك كيرتس كاتب بريطانى مثير للجدل، ارتبط اسمه بالكشف عن العديد من الفضائح السياسية والتاريخية لبلاده وقد بدأ مارك كيرتس دراسته فى مدرسة لندن للاقتصاد، ثم عمل باحثا لدى المعهد الملكى للشؤون الدولية، كما سبق له العمل كمدير بالحركة الإنمائية العالمية وأيضًا كمدير ومشرف على إدارات الشؤون السياسية بعدد من المنظمات غير الحكومية المعروفة، مثل كريستيان إيد وأكشن إيد، وعين من قبل باحثا زائرا بالمعهد الفرنسى للعلاقات الدولية فى باريس والمعهد الألمانى للسياسة الخارجية ببون، وهو مصنف كأحد كبار الباحثين فى شؤون الشرق الأوسط، ويعيش الآن كصحفى حر وله العديد من الإسهامات الصحفية والبحثية التى تجد نوافذ للنشر فى عدد من المجلات والصحف العالمية والعربية كالجارديان، وريد بيبر، والإندبندنت، وزنيت، وفرونتلاين، والشرق الأوسط، والأهرام».
ذات يوم وفى أثناء بحث كيرتس فى وثائق وزارة الخارجية البريطانية وقع على مجموعة من الوثائق أذهلته وغيرت مسار تفكيره، كان كيرتس مهتمًّا بالشأن العربى والجماعات الإسلامية، وكان يعرف وفقا للظاهر أن الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان هو داعية مصرى أنشأ جماعة الإخوان التى أثارت جدلا كبيرا واشتبكت مع كل الحكومات التى حكمت منذ عهد الملك فاروق حتى عهد حسنى مبارك، ولكن نهمه للبحث والتقصى وعقليته البحثية قادته إلى أروقة هيئة الأرشيف الوطنى البريطانى، ظل كيرتس يتردد على هذه الهيئة أربع سنوات كاملة عثر فيها على كنز من الأسرار يصعب أن يقع عليه باحث، وهناك وهو جالس وسط «الكنز المعلوماتى البريطانى» كان قراره: «سأكتب كتابا أضع فيه عشرات من هذه الوثائق، يجب أن يعلم العالم الصورة الحقيقية المختبئة فى الأرشيف، فليس كل ما كان يحدث فى العالم عفويًّا أو من وحى خاطر أصحابه، ولكن صناعة الحدث كانت هى لعبة المخابرات فى عشرات الحوادث التى مرت على العالم».
فكان أن كتب كتابه الأشهر «العلاقات السرية.. تواطؤ بريطانيا مع الأصوليين الإسلامين المتشددين».
كان هذا الكتاب كارثة وقعت على رأس الإخوان ولكنهم تجاهلوها ودفنوا رؤوسهم فى الرمال، كأن شيئا لم يحدث على الإطلاق، وكيف يعقبون على هذا الكتاب وقد احتوى على «وثائق الحقائق» التى تكشف التعاون الكبير بينهم وبريطانيا؟ وكيف يكذبونها وهى تحمل أخبار الأموال التى كانت تُدفع بالتنسيق مع القصر لمؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا بغرض السيطرة عليه وعلى أتباعه؟
إنك لا تستطيع أن تضع كتابا فى كتاب، ومن الظلم للحقيقة أن تجتزئ منه فقرات وتترك باقى الفقرات، لذلك كان من الأصوب أن نلجأ إلى الترجمة التى قام بها البعض، ومنهم الكاتب والباحث علاء عزمى، لننقل ملخصًا عن الكتاب:
«لسنوات عدة ظل كتاب (الخداع الأكبر.. القوة الأنجلو-أميركية والنظام العالمى) هو أشهر أعمال كيرتس على الإطلاق، لا سيما وأنه قد كشف سر العلاقات الأمريكية البريطانية فى حقبة ما بعد الحرب الباردة، حيث ظلت المملكة المتحدة (بريطانيا) شريكا محوريا فى جهود الولايات المتحدة لتعزيز هيمنتها عالميا، إلا أن كتابه الجديد (العلاقات السرية...) بات هو الأهم والأخطر بين كل ما كتب، وفيه يؤكد كيرتس مستندًا إلى قائمة طويلة من الوثائق السرية التى اطلع عليها (تم إيداعها هيئة الأرشيف الوطنى البريطانى) أن صناع القرار السياسى فى بريطانيا قد اعتادوا التعاون مع مجموعة من الحركات الإسلامية الراديكالية من أمثال جماعة الإخوان، ورغم علم لندن أن هذه المجموعات معادية للغرب على طول الخط، فإنها ذلك تعاونت معها من أجل تحقيق أهداف تكتيكية قصيرة المدى، مثل الحفاظ على المصادر والثروات الطبيعية كالنفط أو الإطاحة بالحكومات القومية التى كانت تمثل تهديدًا للإمبراطورية البريطانية وكذا للمشروع الغربى الرأسمالى ككل فى حقبة زمنية ما، لافتا إلى أن التركيز البريطانى على مد يد العون والدعم لمثل هذه المجموعات والتيارات ذات الطابع الدينى المنغلق لم يعد مقتصرا على منطقة الشرق الأوسط، وإنما تخطاها إلى مناطق أخرى دون الأخذ فى الاعتبار العواقب طويلة المدى لمثل هذا التعاون، مؤكدا أن التهديد الإرهابى الحالى لبريطانيا هو نكسة إلى حد ما ناجمة عن شبكة من العمليات البريطانية السرية مع الجماعات الإسلامية المتشددة ممتدة عبر عقود.
فبريطانيا هى التى دعمت آية الله سيد كاشانى، مُعلِّم رمز الثورة الإسلامية فى إيران آية الله الخومينى، فى إطار سعيها للتخلص من حكومة الدكتور مصدق التى كانت تحظى بشعبية جارفة وقامت بتأميم صناعة النفط فى إيران فى الخمسينيات، أما بخصوص علاقة بريطانيا بجماعة الإخوان المسلمين فإن وثائق الكتاب التى وقع عليها كيرتس فإنها خاصة بالفترة التى تبدأ من عام 1942 لا قبلها وإن كان هناك العديد من الوثائق السابقة على هذه الفترة يقول كيرتس إنه يعكف عليها حاليا لإتمام بحثه وإفراغه فى جزء آخر للكتاب.
يكشف كيرتس عن وثيقة مؤرخة عام 1942، حيث جاء فى تقرير بريطانى رسمى ما نصه: «سيتم دفع الإعانات لجماعة الإخوان المسلمين سرًّا من جانب الحكومة المصرية، وفقا للاتفاق بيننا وبين القصر، وسيطلبون بعض المساعدات المالية فى هذا الشأن من السفارة البريطانية.. وستقوم الحكومة المصرية بالزج بعملاء موثوق بهم داخل جماعة الإخوان للإبقاء على مراقبة وثيقة لأنشطتها.. ما يجعلنا (السفارة البريطانية) نحصل على المعلومات من هؤلاء العملاء، ومن جانبنا، سنجعل الحكومة مطلعة على هذه المعلومات التى تم الحصول عليها من مصادر بريطانية».
وقبل منتصف خمسينيات القرن الماضى، حسبما يوثِّق الكتاب، اتخذت المعاملات السرية بين البريطانيين والإخوان منحى آخر، إذ نظرت بريطانيا إلى الجماعة باعتبارها معارضة مفيدة لسياسة الرئيس جمال عبد الناصر ذات التوجهات القومية العربية وأنها أفضل وأقل ضررا من التيارات القومية رغم أصوليتها الشديدة، ومن ثم عقد مسؤولون بريطانيون اجتماعات مع قادة الإخوان المسلمين من أجل العمل كأداة ضد النظام الناصرى الحاكم فى أثناء مفاوضات إجلاء القوات العسكرية البريطانية من مصر، وكذا من أجل خلق موجة من الاضطرابات تمهد لتغيير النظام فى بلاد النيل».
وعند هذه الجزئية أجدنى مضطرا إلى التوقف عن نقل الملخص والانتقال إلى مكان آخر، حيث أنقل لكم لا من عندى ولكن من مذكرات كبار قادة الإخوان، وذلك من أجل إجراء مطابقة بين ما ذكره كيرتس عن طلب المخابرات البريطانية من الإخوان الوقوف ضد اتفاقية الجلاء، وما حدث فعلا فى هذه الفترة وفقا لمذكرات الإخوان أنفسهم، وقد كتب عديد من الإخوان مذكراتهم عن تلك الفترة ولكننى فضلت أن أنقل من مذكرات الدكتور يوسف القرضاوى الذى قال عن توتُّر العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر: «كما وُجد عنصر جديد زاد العلاقة توترا، والنار اشتعالا، وهو الاتفاقية الجديدة التى عقدها عبد الناصر مع بريطانيا، ولم يرها الإخوان محققة لكل آمال البلاد، بعثوا مذكرة مفصلة إلى حكومة الثورة برأيهم فى الاتفاقية وملاحظاتهم عليها، وقد أغضب ذلك عبد الناصر، وزاد من تدهور الوضع... كان أثر نقد الهضيبى الجرىء الصريح لموضوعات الاتفاق مزعجا ومقلقا، وساءت الأمور إثر بيان طويل مفصل يحتوى على نقد الاتفاق أُرفق بخطاب بعث به حميدة نائب المرشد باسم مكتب الإرشاد فى الثانى من أغسطس إلى عبد الناصر. وقد نُشر كذلك عن طريق جهاز النشرات السرية «منشورات»، فكان ذلك توثيقا لحق الإخوان فى إعلان رأيهم فى الاتفاق، علاوة على كونه نقدا له. وقد زاد من تعكير الجو إصدار نشرتين أخريين (منشورين): إحداهما نقد للاتفاق، أمضاها محمد نجيب، ذكر فيها عدم صلته بالاتفاق، والثانية بإمضاء وزير سابق عُرف فى ما بعد أنه سليمان حافظ الذى كان وزيرا للداخلية فى وزارة نجيب الأولى. وقد انتقد فيها الحكومة بوجه عامّ. وكانت النشرتان صادرتين بأحرف مشابهة للمنشورات الأخرى ومطبوعتين على نفس الشاكلة وعلى ورق مشابه، مما يدل على أن مصدر النشر واحد، هو مطابع الإخوان المسلمين، وقد سُلمت النشرتان إلى عبد القادر عودة لنشرهما... وكانت هناك صحف نظمت حملة ضد الهضيبى قالت فيها إنه تفاوض مع الإنجليز... وفى اليوم التالى كان اجتماع الثلاثاء الأسبوعى، وكان آخر اجتماع من نوعه، وقد ساده التوتر. وقف الهضيبى أمام جمع غفير، مبديا تفاصيل رحلته وتفسيره للمحادثات مع تريفور إيفانز التابع للسفارة البريطانية وأن هذا تم بعلم عبد الناصر وتشجيعه... وكان الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية والحائز على رضا الطرفين، وغير المحسوب على أى منهما قد اتخذ مبادرة إيجابية، واتصل بعبد الناصر عن طريق رَجُلَيه إبراهيم الطحاوى وأحمد طعيمة، وكتب مذكرة فى التقريب والمصالحة بين الطرفين. قبلها فى الجملة عبد الناصر بشروط، وعرضها الأستاذ محمود على حشد إخوانى كبير فى منزل الأستاذ محمد جودة عضو الهيئة التأسيسية والتاجر المعروف، وصديق عبد الناصر.. وتبنى الحشد الإخوانى هذه المذكرة، وإن كان للأستاذ البهى رأى ذكره ودافع عنه أمام هذا الحشد، وهو اقتراح خلع المرشد الأستاذ الهضيبى، والاستعاضة عنه بلجنة تدير الجماعة، حتى تختار مرشدا آخر، ورأى أن هذا هو الذى ينقذ الموقف. وعارضه الأستاذ محمود فى هذا، وأنه ليس من الصواب ولا الحكمة أن نعرِّض الجماعة فى مثل هذا الوقت لهذه الأزمة، وأن هذا سيُحدِث فتنة كبيرة، وفتقًا قد لا يُستطاع رتقه فى الظروف الحالكة الحاضرة.
واختار الحاضرون وفدًا يمثل الإخوان للقاء عبد الناصر مكونا من: خميس حميدة، وعمر التلمسانى، ود.عثمان نجاتى، ومحمد حلمى نور الدين، والشيخ أحمد شريت، ومحمود عبد الحليم. والتقوا مع عبد الناصر فى بيته وعرض عبد الناصر موقفه من الإخوان، وموقف الإخوان منه منذ قامت الثورة فى حديث طويل سرده فى الجلسة المشتركة بينه وبين محمود عبد الحليم وعدد من الإخوان، مما دل على قوة ذاكرة الرجل، واستحضاره للأحداث، وتماسك شخصيته، كما يقول الأستاذ محمود، الذى يحسب أن العوامل النفسية كانت من أسباب هذه الأزمات، وأن الإخوان لم يفهموا نفسية عبد الناصر كما ينبغى. ولم يتعاملوا معه بالطريقة التى يمكن بها كسبه إلى صف الجماعة، ولا تؤلبه وتثير حقده عليهم. وأود أن أذكر هنا ما كتبه الأخ محمود عبد الحليم عن هذه الجلسة التاريخية وما تم فيها، قال رحمه الله:
«فى نهاية هذه الجلسة الطويلة المضنية كان لا بد لنا من الوصول إلى اتفاق محدد، وكان أملنا جميعا -نحن الإخوان- أن يكون اقتراحى الذى ذيلت به مذكرتى هو الذى يتم عليه الاتفاق. وتكون مهمتنا -نحن المجتمعين- أن نبحث تفاصيل تنفيذه، ولكن جمال فاجأنا فى نهاية الجلسة برفضه هذا الاقتراح، بل برفضه أى اقتراح للصلح قائلا: (إن الدعوة إلى إجراء صلح بينى وبينكم فات أوانها، ولم تعد الثقة التى هى أساس الصلح موجودة). وتناقشنا معه حول هذه النقطة نقاشا طويلا غير أنه أصرّ على الرفض.. وما كنا نملك شيئا بعد أن صار هو يملك كل أوراق اللعب فى يده ونحن لا نكاد نملك منها شيئا.
قلنا: إذن لم كان هذا الاجتماع؟ ولو علمنا أنك ترفض الصلح لما أتعبنا أنفسنا. ولكن الأستاذ الطحاوى والأستاذ طعيمة أبلغانا أنك قرأت المذكرة ووافقت على ما جاء بها.. وعلى هذا حضرنا، فقال: أنا وافقت على المذكرة كمبدأ. فالصلح هدف، ولكنه الآن ليس الهدف المباشر. لكن الهدف المباشر الآن سيكون مقدمة للصلح، وإذا استطعتم أن تقوموا بأعباء الهدف المباشر انتقلنا إلى الصلح.
قلنا: وما الهدف المباشر؟
قال: كل الذى أستطيع أن أبذله لكم الآن أن أعقد معكم هدنة، فإذا نجحتم فيها كان لكم أن تطالبوا بصلح.
قلنا: وما شروط هذه الهدنة؟
قال: هما شرطان: أن توقفوا حملتكم على اتفاقية الجلاء، وأن توقفوا إصدار النشرات.
قلنا: ولنا شرطان مقابلان: أن توقف الاعتقالات والتشريد، وأن توقف الحملة الصحفية.
قال: أنا موافق على شرطَيكم إذا وافقتم على شرطَىَّ.
قلنا: إننا موافقون.
قال: إذا نفذتم الشرطين فلنا اجتماع آخر بعد اجتماع الهيئة التأسيسية، أما إذا لم تستطيعوا تنفيذ الشرطين فلا اجتماع، ولا تلومونى بعد ذلك.
وهنا خُتمت الجلسة، وخرجنا، وكلنا أمل فى الوفاء بما اشترط علينا لنخرج بالدعوة من هذا المأزق الخطير الذى وُضعت فيه».
يقول محمود عبد الحليم: كان مبيتى عادة حين أكون فى القاهرة أن أبيت عند الأخ الحبيب -رحمه الله- الدكتور جمال عامر زميلى القديم فى الدعوة وعضو الهيئة التأسيسية وصاحب صيدلية الصليبة بالقاهرة.. فلما ذهبنا فى تلك الليلة إلى البيت وجدنا فى انتظارنا الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل، الذى ابتدرنى قائلا: «إننى كنت فى انتظارك على أحر من الجمر، لأننى أقدر أهمية هذه الجلسة، وأؤمِّل فيها خيرا للدعوة، وقد قدمت لأعرف منك ما تم فيها، وأعرف رأيك شخصيا فى جمال عبد الناصر».. فحدثته بكل ما تم فى الجلسة، كما شرحت له وجهة نظرى فى شخصية جمال عبد الناصر على الوجه الذى أجملته فى هذه المذكرات، ولكننى أقرر أن ما حدثت به الأخ عبد العزيز لا بد أنه كان أوفى وأشمل، لا سيما وأنا أثبت ما أثبته فى هذه المذكرات بعد مرور اثنين وعشرين عاما على هذه الأحداث.. وأذكر أننى أنهيت حديثى إلى الأخ عبد العزيز بقولى: إننى أرى أن شخصية جمال عبد الناصر كانت تستحقّ منا دراسة أكثر، وعناية فى التعامل معها أكثر مما كنا نوليها.
ويبدو من سير الأحداث أن الأمور جرت فى مسار آخر غير المسار الذى كان ينشده الأخ محمود عبد الحليم ومن وافقه من الإخوان فى ما سماه «محاولة للإنقاذ»، فقد كان الجو فى داخل الإخوان متوترا ومشحونا ضد الثورة وعبد الناصر، لهذا باءت هذه المحاولة للتقريب أو المصالحة أو الهدنة -التى قد تؤدى إلى مصالحة- بالإخفاق والفشل، نتيجة لتصلُّب القيادات فى مواقفها، وتغليب التشدد على المرونة، والمواجهة على المقاربة، لأمر قدره العزيز العليم.
وقد عُرضت مذكرة الأخ محمود عبد الحليم على الهيئة التأسيسية، ولكن جرت الأمور على غير ما أراد صاحب المذكرة، فقد أخذ رأى الهيئة بالتصويت: أتعرض المذكرة عليها أم لا؟ فكانت الأغلبية مع عدم عرضها».
انتهى النقل من مذكرات الدكتور يوسف القرضاوى ونعود من جديد للنقل من كتاب كيرتس.
يقول كيرتس: «ومع اندلاع العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 قامت بريطانيا باتصالات سرية مع بعض قيادات من الإخوان كانت هاربة خارج مصر ومع قيادات أخرى كانت فى مصر ولم تمتد لها الاعتقالات، أو كانت قد خرجت من الاعتقالات مثل المرشد حسن الهضيبى الذى كان رهن الإقامة الجبرية وقتها، وكانت هذه الاتصالات تتم كجزء من خططها للإطاحة بعبد الناصر أو اغتياله، وأن المسؤولين البريطانيين كانوا يعتقدون –وربما يخططون أيضًا- أن هناك إمكانية أو احتمالية أن يقوم الإخوان بتشكيل حكومة مصرية جديدة بعد الإطاحة بعبد الناصر على أيدى البريطانيين.
بعد ذلك بعام، وعلى وجه الخصوص فى ربيع عام 1957 كتب تريفور إيفانز، وكان مسؤولا بالسفارة البريطانية وقاد اتصالات سابقة مع الإخوان فى خطاب رسمى لحكومة بلاده: (إن اختفاء نظام عبد الناصر... ينبغى أن يكون هدفنا الرئيسى).. بينما تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الخطط البريطانية السرية للإطاحة بالأنظمة القومية فى سوريا بين عامَى 1956 و1957 كانت ترتكز أيضًا على تعاون كبير مع جماعة الإخوان المسلمين هناك. وعليه ولأسباب مشابهة أيضًا انحازت الحكومة البريطانية باستمرار إلى جانب الإخوان المسلمين بمختلف أرجاء الشرق الأوسط.
وبناء على جميع المعلومات السابقة فلا يمكن فصل المخططات البريطانية فى تلك الفترة للتخلص من عبد الناصر عن المحاولة الإخوانية الفاشلة لاغتياله بالإسكندرية فى 26 أكتوبر 1954 والمعروفة بحادثة المنشية، التى شهدت إطلاق النار عليه فى أثناء إلقاء خطاب فى ميدان المنشية بالإسكندرية، ويكشف الكتاب عبر كثير من الوثائق معاملات المخابرات البريطانية مع قادة الإخوان وعن اجتماعات متكررة ضمت حسن الهضيبى، وصالح أبو رقيق، ومنير الدلة مع تريفور إيفانز مستشار السفارة، وعرْضهم عليه فى منزل محمد سالم بقاء جيش الاحتلال فى القناة، مقابل دعم انقلابهم ضد الثورة، والاشتراك فى حلف عسكرى ضد الشيوعية، (مُحذِّرين) من أنه لن يرى النور ما دام عبد الناصر حيا (لأنه يرفض الأحلاف ويصفها بالاستعمارية). ثم يرصد الكتاب تصريح الهضيبى فى يوليو 1953 لوكالة (أسوشيتد برس): (الغرب سيربح إذا حكمنا مصر، سيفهم مبادئنا المعادية للشيوعية وسيقتنع بمزايا الإخوان). لذلك كان طبيعيا أن يسجل أنتونى إيدن، وزير خارجية بريطانيا وقتها، فى مذكراته: (الهضيبى كان حريصًا على علاقات ممتازة معنا، بعكس ناصر).
وفى النهاية فإن أهمية الوثائق التى أوردها الكتاب تتمثل فى أنها انتصرت للعديد من الكتابات والشهادات التى تم نشرها من قبل حول التعاون السرى بين الإخوان والبريطانيين وسارعت الجماعة فى نفيها».
انتهى النقل من كتاب مارك كيرتس، ولكن الفصل لم ينتهِ بعد، فإذا كنا قد وضعنا الدلائل شيئا فشيئا، ونقلنا من مذكرات حسن البنا عن الدعم الذى تلقاه من الإنجليز لتأسيس جماعته حين كان فى مدينة الإسماعيلية، وكشفنا طبيعة هذا الدعم واستمراره من خلال كتابات روبرت دريفوس ومارك كيرتس، فإن خط سير الجماعة بعد ذلك قد كشف عن أشياء كثيرة، وكان من المحطات الهامَّة التى يجب أن نتوقف عندها ما كان يحدث من مقاومة مصرية للإنجليز فى مدن القناة أعوام 1950-1953، حيث كانت أعمال الفدائيين المصريين وقتها تبهر العالم، كان المشهد رائعا، قوافل من الفدائيين تتحرك فى سرية تامة إلى مدن القناة لتحيل معسكرات الإنجليز هناك جحيما، كان الفدائيون ينبضون بالعاطفة الوطنية الصادقة، وهم يسعون من خلال عملياتهم إلى إقلاق الإنجليز، وجعل وجودهم فى المنطقة يكاد يكون مستحيلا، وكانوا يحتاجون إلى تشجيع القوى السياسية لهم، كانت كتائب المجاهد المصرى أحمد حسين رئيس جمعية «مصر الفتاة» تقوم بالجهد الأكبر، ويقول الإخوان عبر مذكراتهم الشخصية إنهم كانوا من المجاهدين فى القناة ضد الإنجليز، ولكن هل هذا الأمر كان حقيقيا؟ المرشد الثانى حسن الهضيبى ينكر ذلك، ويسخر من الفدائيين هناك، فيقول ساخرا لمجلة «الجمهور المصرى» عدد مارس 1952: «هل العنف سيُخرِج الإنجليز؟!».
ثم قال: «قلت لشباب من الإخوان طلبوا الانضمام للفدائيين ضد الإنجليز: اذهبوا واعكفوا على تلاوة القرآن».
فيتلقى المرشد حسن الهضيبى سخرية من المفكر الكبير الراحل خالد محمد خالد فى «روزاليوسف»، مطمئنا المُحتلّ: أبشر بطول سلامة يا جورج.
اليوم: الثامن والعشرون من شهر مارس.
العام: 2008.
الشخص: كين لفنجستون.
الوظيفة: عمدة لندن وأحد أقطاب حزب العمال البريطانى وأحد الأسماء البارزة فى سماء اليسار الأوروبى الداعم لعديد من القضايا العربية والإسلامية.
المشهد: خرج كين لفنجستون من مكتبه ليقف أمام عشرات من الصحفيين، وبعد أن تحدث معهم عن بعض الشؤون الخاصة بالعاصمة لندن سأله أحد الصحفيين عن خطر الجماعات الإسلامية الأصولية، فقال لهم مطمئنًا: «جماعة الإخوان كبرى هذه الحركات تربطنا بها علاقة جيدة، وقد كانت تتلقى تمويلا ماليا من الخارجية البريطانية منذ بداية نشأتها، فهى ليست بعيدة عنا إذن، وقد استخدمنا هذه الجماعة لسنوات طويلة وكانت مخلصة لنا، فقد كان نظام عبد الناصر خطرًا علينا، وعلى الجانب الآخر مثلت هذه الجماعة خطرا كبيرا على عبد الناصر ونظامه».
ورغم أن هذا التصريح كان مثِّل قنبلة فإن أحدًا عندنا فى الشرق لم يلتفت كثيرا له، كانت التبريرات التى خرجت من بعض قيادات الجماعة فى موقعهم الإلكترونى تذهب إلى أن «هذا العمدة رجل موتور حاقد كاره للإسلام وهو شيوعى قح فماذا تنتظرون منه؟ كما أن كلامه لم يكن موثَّقا، وهذا وحده كفيل بهدم كلامه».
النتيجة: لم تَلْقَ تصريحات لفنجستون العناية الكافية من الباحثين فى المنطقة العربية، ولم يصل صداها إلى الجماهير.
يكتب الكاتب الأمريكى روبرت دريفوس كتابه الشهير «لعبة الشيطان» عن دعم الولايات المتحدة الأمريكية للجماعات الأصولية وفى القلب منها جماعة الإخوان، ويقول فيه: «تأسست حركة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا بمنحة من شركة قناة السويس البريطانية، وخلال ربع القرن التالى تتلقى تلك الجماعة الدعم الكامل من الدبلوماسيين البريطانيين والمخابرات البريطانية».
ثم يقول أيضًا: «كانت هذه الجماعة هى القوة الوحيدة فى الشرق الأوسط التى تمثل ثقلا كبيرا فى عملية تحقيق التوازن ضد القوى المناهضة لبريطانيا وهى القوميين واليسار العلمانى».
استمر دريفوس فى الكتاب قائلا: «كان الدبلوماسى الأمريكى هيرمان إيلتس صديقا لحسن البنا وقد التقاه كثيرا»، وينقل دريفوس على لسان إلتس: «أعرف أحد زملائى فى السفارة الأمريكية كان يلتقى بشكل دورى مع حسن البنا وذلك لأغراض التقارير».
قد يكون دريفوس مبالغا، فلربما كانت فى نفسه مَوْجِدة من الإخوان، ولربما كان حاقدًا على حسن البنا، ولكن الوثائق لا تحقد، ولا تميل، ولا تحمل موجدة إنما تحمل حقائق وتروى تاريخا، لذلك كانت هناك أهمية بالغة لكيرتس، الذى أطلقت عليه كيرتس الرهيب.
يقول الكاتب الصحفى علاء عزمى فى بحث له منشور فى مجلة «آخر ساعة» عدد 16/8/2010: «مارك كيرتس كاتب بريطانى مثير للجدل، ارتبط اسمه بالكشف عن العديد من الفضائح السياسية والتاريخية لبلاده وقد بدأ مارك كيرتس دراسته فى مدرسة لندن للاقتصاد، ثم عمل باحثا لدى المعهد الملكى للشؤون الدولية، كما سبق له العمل كمدير بالحركة الإنمائية العالمية وأيضًا كمدير ومشرف على إدارات الشؤون السياسية بعدد من المنظمات غير الحكومية المعروفة، مثل كريستيان إيد وأكشن إيد، وعين من قبل باحثا زائرا بالمعهد الفرنسى للعلاقات الدولية فى باريس والمعهد الألمانى للسياسة الخارجية ببون، وهو مصنف كأحد كبار الباحثين فى شؤون الشرق الأوسط، ويعيش الآن كصحفى حر وله العديد من الإسهامات الصحفية والبحثية التى تجد نوافذ للنشر فى عدد من المجلات والصحف العالمية والعربية كالجارديان، وريد بيبر، والإندبندنت، وزنيت، وفرونتلاين، والشرق الأوسط، والأهرام».
ذات يوم وفى أثناء بحث كيرتس فى وثائق وزارة الخارجية البريطانية وقع على مجموعة من الوثائق أذهلته وغيرت مسار تفكيره، كان كيرتس مهتمًّا بالشأن العربى والجماعات الإسلامية، وكان يعرف وفقا للظاهر أن الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان هو داعية مصرى أنشأ جماعة الإخوان التى أثارت جدلا كبيرا واشتبكت مع كل الحكومات التى حكمت منذ عهد الملك فاروق حتى عهد حسنى مبارك، ولكن نهمه للبحث والتقصى وعقليته البحثية قادته إلى أروقة هيئة الأرشيف الوطنى البريطانى، ظل كيرتس يتردد على هذه الهيئة أربع سنوات كاملة عثر فيها على كنز من الأسرار يصعب أن يقع عليه باحث، وهناك وهو جالس وسط «الكنز المعلوماتى البريطانى» كان قراره: «سأكتب كتابا أضع فيه عشرات من هذه الوثائق، يجب أن يعلم العالم الصورة الحقيقية المختبئة فى الأرشيف، فليس كل ما كان يحدث فى العالم عفويًّا أو من وحى خاطر أصحابه، ولكن صناعة الحدث كانت هى لعبة المخابرات فى عشرات الحوادث التى مرت على العالم».
فكان أن كتب كتابه الأشهر «العلاقات السرية.. تواطؤ بريطانيا مع الأصوليين الإسلامين المتشددين».
كان هذا الكتاب كارثة وقعت على رأس الإخوان ولكنهم تجاهلوها ودفنوا رؤوسهم فى الرمال، كأن شيئا لم يحدث على الإطلاق، وكيف يعقبون على هذا الكتاب وقد احتوى على «وثائق الحقائق» التى تكشف التعاون الكبير بينهم وبريطانيا؟ وكيف يكذبونها وهى تحمل أخبار الأموال التى كانت تُدفع بالتنسيق مع القصر لمؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا بغرض السيطرة عليه وعلى أتباعه؟
إنك لا تستطيع أن تضع كتابا فى كتاب، ومن الظلم للحقيقة أن تجتزئ منه فقرات وتترك باقى الفقرات، لذلك كان من الأصوب أن نلجأ إلى الترجمة التى قام بها البعض، ومنهم الكاتب والباحث علاء عزمى، لننقل ملخصًا عن الكتاب:
«لسنوات عدة ظل كتاب (الخداع الأكبر.. القوة الأنجلو-أميركية والنظام العالمى) هو أشهر أعمال كيرتس على الإطلاق، لا سيما وأنه قد كشف سر العلاقات الأمريكية البريطانية فى حقبة ما بعد الحرب الباردة، حيث ظلت المملكة المتحدة (بريطانيا) شريكا محوريا فى جهود الولايات المتحدة لتعزيز هيمنتها عالميا، إلا أن كتابه الجديد (العلاقات السرية...) بات هو الأهم والأخطر بين كل ما كتب، وفيه يؤكد كيرتس مستندًا إلى قائمة طويلة من الوثائق السرية التى اطلع عليها (تم إيداعها هيئة الأرشيف الوطنى البريطانى) أن صناع القرار السياسى فى بريطانيا قد اعتادوا التعاون مع مجموعة من الحركات الإسلامية الراديكالية من أمثال جماعة الإخوان، ورغم علم لندن أن هذه المجموعات معادية للغرب على طول الخط، فإنها ذلك تعاونت معها من أجل تحقيق أهداف تكتيكية قصيرة المدى، مثل الحفاظ على المصادر والثروات الطبيعية كالنفط أو الإطاحة بالحكومات القومية التى كانت تمثل تهديدًا للإمبراطورية البريطانية وكذا للمشروع الغربى الرأسمالى ككل فى حقبة زمنية ما، لافتا إلى أن التركيز البريطانى على مد يد العون والدعم لمثل هذه المجموعات والتيارات ذات الطابع الدينى المنغلق لم يعد مقتصرا على منطقة الشرق الأوسط، وإنما تخطاها إلى مناطق أخرى دون الأخذ فى الاعتبار العواقب طويلة المدى لمثل هذا التعاون، مؤكدا أن التهديد الإرهابى الحالى لبريطانيا هو نكسة إلى حد ما ناجمة عن شبكة من العمليات البريطانية السرية مع الجماعات الإسلامية المتشددة ممتدة عبر عقود.
فبريطانيا هى التى دعمت آية الله سيد كاشانى، مُعلِّم رمز الثورة الإسلامية فى إيران آية الله الخومينى، فى إطار سعيها للتخلص من حكومة الدكتور مصدق التى كانت تحظى بشعبية جارفة وقامت بتأميم صناعة النفط فى إيران فى الخمسينيات، أما بخصوص علاقة بريطانيا بجماعة الإخوان المسلمين فإن وثائق الكتاب التى وقع عليها كيرتس فإنها خاصة بالفترة التى تبدأ من عام 1942 لا قبلها وإن كان هناك العديد من الوثائق السابقة على هذه الفترة يقول كيرتس إنه يعكف عليها حاليا لإتمام بحثه وإفراغه فى جزء آخر للكتاب.
يكشف كيرتس عن وثيقة مؤرخة عام 1942، حيث جاء فى تقرير بريطانى رسمى ما نصه: «سيتم دفع الإعانات لجماعة الإخوان المسلمين سرًّا من جانب الحكومة المصرية، وفقا للاتفاق بيننا وبين القصر، وسيطلبون بعض المساعدات المالية فى هذا الشأن من السفارة البريطانية.. وستقوم الحكومة المصرية بالزج بعملاء موثوق بهم داخل جماعة الإخوان للإبقاء على مراقبة وثيقة لأنشطتها.. ما يجعلنا (السفارة البريطانية) نحصل على المعلومات من هؤلاء العملاء، ومن جانبنا، سنجعل الحكومة مطلعة على هذه المعلومات التى تم الحصول عليها من مصادر بريطانية».
وقبل منتصف خمسينيات القرن الماضى، حسبما يوثِّق الكتاب، اتخذت المعاملات السرية بين البريطانيين والإخوان منحى آخر، إذ نظرت بريطانيا إلى الجماعة باعتبارها معارضة مفيدة لسياسة الرئيس جمال عبد الناصر ذات التوجهات القومية العربية وأنها أفضل وأقل ضررا من التيارات القومية رغم أصوليتها الشديدة، ومن ثم عقد مسؤولون بريطانيون اجتماعات مع قادة الإخوان المسلمين من أجل العمل كأداة ضد النظام الناصرى الحاكم فى أثناء مفاوضات إجلاء القوات العسكرية البريطانية من مصر، وكذا من أجل خلق موجة من الاضطرابات تمهد لتغيير النظام فى بلاد النيل».
وعند هذه الجزئية أجدنى مضطرا إلى التوقف عن نقل الملخص والانتقال إلى مكان آخر، حيث أنقل لكم لا من عندى ولكن من مذكرات كبار قادة الإخوان، وذلك من أجل إجراء مطابقة بين ما ذكره كيرتس عن طلب المخابرات البريطانية من الإخوان الوقوف ضد اتفاقية الجلاء، وما حدث فعلا فى هذه الفترة وفقا لمذكرات الإخوان أنفسهم، وقد كتب عديد من الإخوان مذكراتهم عن تلك الفترة ولكننى فضلت أن أنقل من مذكرات الدكتور يوسف القرضاوى الذى قال عن توتُّر العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر: «كما وُجد عنصر جديد زاد العلاقة توترا، والنار اشتعالا، وهو الاتفاقية الجديدة التى عقدها عبد الناصر مع بريطانيا، ولم يرها الإخوان محققة لكل آمال البلاد، بعثوا مذكرة مفصلة إلى حكومة الثورة برأيهم فى الاتفاقية وملاحظاتهم عليها، وقد أغضب ذلك عبد الناصر، وزاد من تدهور الوضع... كان أثر نقد الهضيبى الجرىء الصريح لموضوعات الاتفاق مزعجا ومقلقا، وساءت الأمور إثر بيان طويل مفصل يحتوى على نقد الاتفاق أُرفق بخطاب بعث به حميدة نائب المرشد باسم مكتب الإرشاد فى الثانى من أغسطس إلى عبد الناصر. وقد نُشر كذلك عن طريق جهاز النشرات السرية «منشورات»، فكان ذلك توثيقا لحق الإخوان فى إعلان رأيهم فى الاتفاق، علاوة على كونه نقدا له. وقد زاد من تعكير الجو إصدار نشرتين أخريين (منشورين): إحداهما نقد للاتفاق، أمضاها محمد نجيب، ذكر فيها عدم صلته بالاتفاق، والثانية بإمضاء وزير سابق عُرف فى ما بعد أنه سليمان حافظ الذى كان وزيرا للداخلية فى وزارة نجيب الأولى. وقد انتقد فيها الحكومة بوجه عامّ. وكانت النشرتان صادرتين بأحرف مشابهة للمنشورات الأخرى ومطبوعتين على نفس الشاكلة وعلى ورق مشابه، مما يدل على أن مصدر النشر واحد، هو مطابع الإخوان المسلمين، وقد سُلمت النشرتان إلى عبد القادر عودة لنشرهما... وكانت هناك صحف نظمت حملة ضد الهضيبى قالت فيها إنه تفاوض مع الإنجليز... وفى اليوم التالى كان اجتماع الثلاثاء الأسبوعى، وكان آخر اجتماع من نوعه، وقد ساده التوتر. وقف الهضيبى أمام جمع غفير، مبديا تفاصيل رحلته وتفسيره للمحادثات مع تريفور إيفانز التابع للسفارة البريطانية وأن هذا تم بعلم عبد الناصر وتشجيعه... وكان الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية والحائز على رضا الطرفين، وغير المحسوب على أى منهما قد اتخذ مبادرة إيجابية، واتصل بعبد الناصر عن طريق رَجُلَيه إبراهيم الطحاوى وأحمد طعيمة، وكتب مذكرة فى التقريب والمصالحة بين الطرفين. قبلها فى الجملة عبد الناصر بشروط، وعرضها الأستاذ محمود على حشد إخوانى كبير فى منزل الأستاذ محمد جودة عضو الهيئة التأسيسية والتاجر المعروف، وصديق عبد الناصر.. وتبنى الحشد الإخوانى هذه المذكرة، وإن كان للأستاذ البهى رأى ذكره ودافع عنه أمام هذا الحشد، وهو اقتراح خلع المرشد الأستاذ الهضيبى، والاستعاضة عنه بلجنة تدير الجماعة، حتى تختار مرشدا آخر، ورأى أن هذا هو الذى ينقذ الموقف. وعارضه الأستاذ محمود فى هذا، وأنه ليس من الصواب ولا الحكمة أن نعرِّض الجماعة فى مثل هذا الوقت لهذه الأزمة، وأن هذا سيُحدِث فتنة كبيرة، وفتقًا قد لا يُستطاع رتقه فى الظروف الحالكة الحاضرة.
واختار الحاضرون وفدًا يمثل الإخوان للقاء عبد الناصر مكونا من: خميس حميدة، وعمر التلمسانى، ود.عثمان نجاتى، ومحمد حلمى نور الدين، والشيخ أحمد شريت، ومحمود عبد الحليم. والتقوا مع عبد الناصر فى بيته وعرض عبد الناصر موقفه من الإخوان، وموقف الإخوان منه منذ قامت الثورة فى حديث طويل سرده فى الجلسة المشتركة بينه وبين محمود عبد الحليم وعدد من الإخوان، مما دل على قوة ذاكرة الرجل، واستحضاره للأحداث، وتماسك شخصيته، كما يقول الأستاذ محمود، الذى يحسب أن العوامل النفسية كانت من أسباب هذه الأزمات، وأن الإخوان لم يفهموا نفسية عبد الناصر كما ينبغى. ولم يتعاملوا معه بالطريقة التى يمكن بها كسبه إلى صف الجماعة، ولا تؤلبه وتثير حقده عليهم. وأود أن أذكر هنا ما كتبه الأخ محمود عبد الحليم عن هذه الجلسة التاريخية وما تم فيها، قال رحمه الله:
«فى نهاية هذه الجلسة الطويلة المضنية كان لا بد لنا من الوصول إلى اتفاق محدد، وكان أملنا جميعا -نحن الإخوان- أن يكون اقتراحى الذى ذيلت به مذكرتى هو الذى يتم عليه الاتفاق. وتكون مهمتنا -نحن المجتمعين- أن نبحث تفاصيل تنفيذه، ولكن جمال فاجأنا فى نهاية الجلسة برفضه هذا الاقتراح، بل برفضه أى اقتراح للصلح قائلا: (إن الدعوة إلى إجراء صلح بينى وبينكم فات أوانها، ولم تعد الثقة التى هى أساس الصلح موجودة). وتناقشنا معه حول هذه النقطة نقاشا طويلا غير أنه أصرّ على الرفض.. وما كنا نملك شيئا بعد أن صار هو يملك كل أوراق اللعب فى يده ونحن لا نكاد نملك منها شيئا.
قلنا: إذن لم كان هذا الاجتماع؟ ولو علمنا أنك ترفض الصلح لما أتعبنا أنفسنا. ولكن الأستاذ الطحاوى والأستاذ طعيمة أبلغانا أنك قرأت المذكرة ووافقت على ما جاء بها.. وعلى هذا حضرنا، فقال: أنا وافقت على المذكرة كمبدأ. فالصلح هدف، ولكنه الآن ليس الهدف المباشر. لكن الهدف المباشر الآن سيكون مقدمة للصلح، وإذا استطعتم أن تقوموا بأعباء الهدف المباشر انتقلنا إلى الصلح.
قلنا: وما الهدف المباشر؟
قال: كل الذى أستطيع أن أبذله لكم الآن أن أعقد معكم هدنة، فإذا نجحتم فيها كان لكم أن تطالبوا بصلح.
قلنا: وما شروط هذه الهدنة؟
قال: هما شرطان: أن توقفوا حملتكم على اتفاقية الجلاء، وأن توقفوا إصدار النشرات.
قلنا: ولنا شرطان مقابلان: أن توقف الاعتقالات والتشريد، وأن توقف الحملة الصحفية.
قال: أنا موافق على شرطَيكم إذا وافقتم على شرطَىَّ.
قلنا: إننا موافقون.
قال: إذا نفذتم الشرطين فلنا اجتماع آخر بعد اجتماع الهيئة التأسيسية، أما إذا لم تستطيعوا تنفيذ الشرطين فلا اجتماع، ولا تلومونى بعد ذلك.
وهنا خُتمت الجلسة، وخرجنا، وكلنا أمل فى الوفاء بما اشترط علينا لنخرج بالدعوة من هذا المأزق الخطير الذى وُضعت فيه».
يقول محمود عبد الحليم: كان مبيتى عادة حين أكون فى القاهرة أن أبيت عند الأخ الحبيب -رحمه الله- الدكتور جمال عامر زميلى القديم فى الدعوة وعضو الهيئة التأسيسية وصاحب صيدلية الصليبة بالقاهرة.. فلما ذهبنا فى تلك الليلة إلى البيت وجدنا فى انتظارنا الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل، الذى ابتدرنى قائلا: «إننى كنت فى انتظارك على أحر من الجمر، لأننى أقدر أهمية هذه الجلسة، وأؤمِّل فيها خيرا للدعوة، وقد قدمت لأعرف منك ما تم فيها، وأعرف رأيك شخصيا فى جمال عبد الناصر».. فحدثته بكل ما تم فى الجلسة، كما شرحت له وجهة نظرى فى شخصية جمال عبد الناصر على الوجه الذى أجملته فى هذه المذكرات، ولكننى أقرر أن ما حدثت به الأخ عبد العزيز لا بد أنه كان أوفى وأشمل، لا سيما وأنا أثبت ما أثبته فى هذه المذكرات بعد مرور اثنين وعشرين عاما على هذه الأحداث.. وأذكر أننى أنهيت حديثى إلى الأخ عبد العزيز بقولى: إننى أرى أن شخصية جمال عبد الناصر كانت تستحقّ منا دراسة أكثر، وعناية فى التعامل معها أكثر مما كنا نوليها.
ويبدو من سير الأحداث أن الأمور جرت فى مسار آخر غير المسار الذى كان ينشده الأخ محمود عبد الحليم ومن وافقه من الإخوان فى ما سماه «محاولة للإنقاذ»، فقد كان الجو فى داخل الإخوان متوترا ومشحونا ضد الثورة وعبد الناصر، لهذا باءت هذه المحاولة للتقريب أو المصالحة أو الهدنة -التى قد تؤدى إلى مصالحة- بالإخفاق والفشل، نتيجة لتصلُّب القيادات فى مواقفها، وتغليب التشدد على المرونة، والمواجهة على المقاربة، لأمر قدره العزيز العليم.
وقد عُرضت مذكرة الأخ محمود عبد الحليم على الهيئة التأسيسية، ولكن جرت الأمور على غير ما أراد صاحب المذكرة، فقد أخذ رأى الهيئة بالتصويت: أتعرض المذكرة عليها أم لا؟ فكانت الأغلبية مع عدم عرضها».
انتهى النقل من مذكرات الدكتور يوسف القرضاوى ونعود من جديد للنقل من كتاب كيرتس.
يقول كيرتس: «ومع اندلاع العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 قامت بريطانيا باتصالات سرية مع بعض قيادات من الإخوان كانت هاربة خارج مصر ومع قيادات أخرى كانت فى مصر ولم تمتد لها الاعتقالات، أو كانت قد خرجت من الاعتقالات مثل المرشد حسن الهضيبى الذى كان رهن الإقامة الجبرية وقتها، وكانت هذه الاتصالات تتم كجزء من خططها للإطاحة بعبد الناصر أو اغتياله، وأن المسؤولين البريطانيين كانوا يعتقدون –وربما يخططون أيضًا- أن هناك إمكانية أو احتمالية أن يقوم الإخوان بتشكيل حكومة مصرية جديدة بعد الإطاحة بعبد الناصر على أيدى البريطانيين.
بعد ذلك بعام، وعلى وجه الخصوص فى ربيع عام 1957 كتب تريفور إيفانز، وكان مسؤولا بالسفارة البريطانية وقاد اتصالات سابقة مع الإخوان فى خطاب رسمى لحكومة بلاده: (إن اختفاء نظام عبد الناصر... ينبغى أن يكون هدفنا الرئيسى).. بينما تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الخطط البريطانية السرية للإطاحة بالأنظمة القومية فى سوريا بين عامَى 1956 و1957 كانت ترتكز أيضًا على تعاون كبير مع جماعة الإخوان المسلمين هناك. وعليه ولأسباب مشابهة أيضًا انحازت الحكومة البريطانية باستمرار إلى جانب الإخوان المسلمين بمختلف أرجاء الشرق الأوسط.
وبناء على جميع المعلومات السابقة فلا يمكن فصل المخططات البريطانية فى تلك الفترة للتخلص من عبد الناصر عن المحاولة الإخوانية الفاشلة لاغتياله بالإسكندرية فى 26 أكتوبر 1954 والمعروفة بحادثة المنشية، التى شهدت إطلاق النار عليه فى أثناء إلقاء خطاب فى ميدان المنشية بالإسكندرية، ويكشف الكتاب عبر كثير من الوثائق معاملات المخابرات البريطانية مع قادة الإخوان وعن اجتماعات متكررة ضمت حسن الهضيبى، وصالح أبو رقيق، ومنير الدلة مع تريفور إيفانز مستشار السفارة، وعرْضهم عليه فى منزل محمد سالم بقاء جيش الاحتلال فى القناة، مقابل دعم انقلابهم ضد الثورة، والاشتراك فى حلف عسكرى ضد الشيوعية، (مُحذِّرين) من أنه لن يرى النور ما دام عبد الناصر حيا (لأنه يرفض الأحلاف ويصفها بالاستعمارية). ثم يرصد الكتاب تصريح الهضيبى فى يوليو 1953 لوكالة (أسوشيتد برس): (الغرب سيربح إذا حكمنا مصر، سيفهم مبادئنا المعادية للشيوعية وسيقتنع بمزايا الإخوان). لذلك كان طبيعيا أن يسجل أنتونى إيدن، وزير خارجية بريطانيا وقتها، فى مذكراته: (الهضيبى كان حريصًا على علاقات ممتازة معنا، بعكس ناصر).
وفى النهاية فإن أهمية الوثائق التى أوردها الكتاب تتمثل فى أنها انتصرت للعديد من الكتابات والشهادات التى تم نشرها من قبل حول التعاون السرى بين الإخوان والبريطانيين وسارعت الجماعة فى نفيها».
انتهى النقل من كتاب مارك كيرتس، ولكن الفصل لم ينتهِ بعد، فإذا كنا قد وضعنا الدلائل شيئا فشيئا، ونقلنا من مذكرات حسن البنا عن الدعم الذى تلقاه من الإنجليز لتأسيس جماعته حين كان فى مدينة الإسماعيلية، وكشفنا طبيعة هذا الدعم واستمراره من خلال كتابات روبرت دريفوس ومارك كيرتس، فإن خط سير الجماعة بعد ذلك قد كشف عن أشياء كثيرة، وكان من المحطات الهامَّة التى يجب أن نتوقف عندها ما كان يحدث من مقاومة مصرية للإنجليز فى مدن القناة أعوام 1950-1953، حيث كانت أعمال الفدائيين المصريين وقتها تبهر العالم، كان المشهد رائعا، قوافل من الفدائيين تتحرك فى سرية تامة إلى مدن القناة لتحيل معسكرات الإنجليز هناك جحيما، كان الفدائيون ينبضون بالعاطفة الوطنية الصادقة، وهم يسعون من خلال عملياتهم إلى إقلاق الإنجليز، وجعل وجودهم فى المنطقة يكاد يكون مستحيلا، وكانوا يحتاجون إلى تشجيع القوى السياسية لهم، كانت كتائب المجاهد المصرى أحمد حسين رئيس جمعية «مصر الفتاة» تقوم بالجهد الأكبر، ويقول الإخوان عبر مذكراتهم الشخصية إنهم كانوا من المجاهدين فى القناة ضد الإنجليز، ولكن هل هذا الأمر كان حقيقيا؟ المرشد الثانى حسن الهضيبى ينكر ذلك، ويسخر من الفدائيين هناك، فيقول ساخرا لمجلة «الجمهور المصرى» عدد مارس 1952: «هل العنف سيُخرِج الإنجليز؟!».
ثم قال: «قلت لشباب من الإخوان طلبوا الانضمام للفدائيين ضد الإنجليز: اذهبوا واعكفوا على تلاوة القرآن».
فيتلقى المرشد حسن الهضيبى سخرية من المفكر الكبير الراحل خالد محمد خالد فى «روزاليوسف»، مطمئنا المُحتلّ: أبشر بطول سلامة يا جورج.
0 التعليقات:
إرسال تعليق